إيلي شلهوبحراك دبلوماسي عربي يُتوقع أن تزداد وتيرته خلال الفترة المقبلة، مع اقتراب موعد القمة العادية المقررة في الدوحة أواخر آذار. زيارتا مقرن بن عبد العزيز وعمرو موسى إلى دمشق ليستا سوى أول الغيث. الإشارات الصادرة عن الرياض، وتحديداً عن الملك عبد الله، قد ترسم ملامح الأسابيع المقبلة. الغاية واضحة: عدم تكرار تجربة قمة دمشق في الدوحة، تلك المدينة التي تحوّلت خلال عقد ونصف عقد من الزمن من عاصمة منسيّة إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية.
هي بالتحديد 13 عاماً، منذ الانتقال الأخير للسلطة في تلك الإمارة التي تقع على أطراف السعودية. سنوات اعتمدت خلالها الدوحة سياسة خارجية نشطة تستهدف إقامة تحالفات وضمان استقرار المنطقة حمايةً لنفسها ولثرواتها. سياسة عنوانها دبلوماسية الوساطات. أداتها الأموال النفطية (مساعداتها تصل إلى ضحايا إعصار كاترينا والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وغزة، واستثماراتها تمتد من سوريا إلى زيمبابوي) والعلاقات العامة التي بنتها على قاعدة اللعب مع الكل (بمن فيهم الدولة العبرية) وعدم الاصطفاف مع أحد والغاية أن «نكون على علاقة جيدة مع الجميع». أسلوبها التقرب من أيّ كان في محاولة للحصول على رافعة يمكن استخدامها على طاولة التفاوض. لم تترك بؤرة توتر أو خلاف من المحيط إلى الخليج إلّا عملت على حله، من التمرّد في اليمن إلى المغرب إلى ملف الممرضات البلغاريات في ليبيا إلى الصراع بين إثيوبيا وإريتريا وملف دارفور السوداني... درّة إنجازاتها لا شك في أنه كان الاتفاق اللبناني الذي عُقد في الدوحة في أيار 2008.
13 عاماً جمعت خلالها قطر التناقضات كلها، بلا تفسير واضح: تقيم علاقة وثيقة مع إيران وسوريا وروسيا ومع الولايات المتحدة والسعودية والانفصاليين الشيشان (وفّرت ملاذاً آمناً لزعيم التمرد الشيشاني زليمان يندرباييف إلى أن اغتاله في 2004 اثنان من العملاء الروس عادت وسلّمتهما إلى موسكو بعدما أدانتهما بتهمة القتل وحكمت عليهما بالإعدام). تستضيف حركات المقاومة والمتطرفين الإسلاميين، ومعهم أكبر القواعد الجوية الأميركية في المنطقة ومكتب تمثيل إسرائيلي (أغلقته أخيراً)، إضافةً إلى قناة «الجزيرة» المثيرة لـ«المشاكل» (نجحت الدوحة في 2007 في إعادة العلاقة مع الرياض التي قطعتها في 2002 احتجاجاً على تغطيات هذه المحطة)، وأرملة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين... دبلوماسية بلا لون وفرت لهذه الإمارة الخليجية الأمن والأمان (تعرضت لاعتداء إرهابي وحيد في آذار 2005 استهدف مسرح الدوحة وأدى إلى مقتل بريطاني وسقوط عدد من الجرحى)، إضافةً إلى الازدهار الاقتصادي ومعدلات نمو مرتفعة (يتوقع أن تبلغ 9.8 إلى 10 في المئة في 2009 رغم الأزمة الاقتصادية العالمية، التي يعتقد بعض المحللين أن تأثيراتها محدودة على قطر التي تعيش حالياً المرحلة نفسها التي شهدتها السعودية خلال سبعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى كون موردها الأساسي يتأتّى من الغاز الطبيعي الذي لم ينل انخفاض أسعار النفط منه).
لكن يبدو أن هناك تغييرات تجري على الإطار الناظم للسياسة الخارجية القطرية، عبّرت عن نفسها في أوضح تجلياتها خلال القمة التي عُقدت في الدوحة في شأن العدوان الإسرائيلي على غزة في كانون الثاني الماضي. تحولات زُرعت بذورها الأولى على ما يبدو في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان، وظهرت براعمها عقب أحداث السابع من أيار 2008، تشير إلى بدايات تخلٍّ قطري عن سياسة الحياد الإيجابي باتجاه الدخول في سياسة المحاور، أو على الأقل إلى الانتقال من البحث عن الأمن والاستقرار إلى البحث عن دور جديد في المنطقة يضع هذه الإمارة الخليجية في مصافّ الدول الإقليمية الفاعلة. سقف المواقف وطبيعة الحضور في «قمة غزة» دليل أولي. كذلك الأمر بالنسبة إلى التدخل النشط للدوحة في أزمتين كثيراً ما عُدّتا حكراً على القاهرة: دارفور السوداني وغزّة الفلسطيني (إلى حدّ دعت فيه قطر إلى مؤتمر لإعمار القطاع رغم صدور دعوة مشابهة مع موعد عن مصر).
ملامح سياسة جديدة ستعبّر عن نفسها خلال الأشهر المقبلة التي تتولى خلالها قطر رئاسة مؤتمر القمة العربية. نجاح قمة الدوحة في آذار من حيث الحضور وجدول الأعمال والمقررات لا شك في أنه سيكون حاسماً في هذا الشأن: إما محاور أو عود على بدء.