يغرق الأطفال بدمائهم في غزة. وهنا في بيروت المتضامنة، ليس لبعض المتضامنين اللبنانيين سوى التجّمع وإطلاق الصرخات. أثناء التجّمعات، قد تكون الوجوه مألوفة، لولا وجود مراقبين بين المتظاهرين، من أجهزة أمنية، لا يستطيعون فهم مهماتها دائماً. هنا بعض قصصهم:
أحمد محسن
ينزل المتظاهرون إلى الساحات للتخلّص من صمت يؤلمهم، والتعبير عن التضامن مع أموات غزة وأحيائها، متسلّحين بالأعلام الفلسطينية وبعض من صور الشهداء. يفاجأ بعض هؤلاء بـ«عنصر أمني يراقبهم». تبقى هويته مجهولة بالنسبة إليهم، وأحياناً قد يكشف هويته، معلناً بصوت واثق: «شعبة المعلومات»، أو «استقصاء» أو «تحري»، أو «مخابرات» ثم يمطر المعتصم بوابل من «الأسئلة غير المفهومة». هكذا وصف المتظاهرون أسئلة رجال الأمن «السريّين» لهم، بالمقارنة مع حجم الحدث الذي يشاركون لأجله. يواجهون تدقيقاً حاداً في هوياتهم، فيما لم يستطع أحد ممن التقتهم «الأخبار» منهم، أن يفهم «ماذا يريدون؟».
روى قاسم، أحد المواطنين الفلسطينيين، لـ«الأخبار» ما رآه أمام السفارة المصرية في بيروت. يقول: «كان رجال المعلومات يضعون المسدسات الحربية أو الأصفاد على خاصرتهم، فتنسل من تحت المعطف، ربما من دون قصد واضعها، وربما عمداً». أكد المواطن الفلسطيني أنهم يلبسون ثياباً مدنية عادية، ويحملون الكاميرات مثل العديد من المتظاهرين. يأتون على دراجات نارية من نوع Cross، وقد يسبقون الجميع أحياناً. يمكن سماع الأصوات الصادرة عن أجهزتهم اللاسلكية أحياناً. لكن المتظاهرين لا يحادثون عناصر القوى الأمنية المكلفين بحفظ الأمن، ولا يحتكّون معهم. «أما عناصر فرع المعلومات فيعرّفون عن أنفسهم ويفعلون ذلك باستمرار»، يقول المتظاهر الدائم ساخراً. ويتابع وصفه، «يشيرون بأصابعهم إلى بعض الأشخاص، فيصوّبون الكاميرا نحوهم ويلتقطون الصور». بيد أن ما لا يفهمه قاسم هو «العبسة الدائمة التي ترتسم على وجوههم. كأنهم يكرهون أنفسهم».
«لا يميّزون بين الصحافة والمواطن»، يقول أحد الزملاء. ويقول إنه في إحدى المرات، أثناء حادثة حرق الباسبور الشهيرة أمام السفارة المصرية، توجه إليه أحد رجال الأمن. «عبس في وجهي» يقول محمد، ثم راح يسأل: كم عدد المتظاهرين؟ من هم المنظّمون والمشاركون؟ في أي ساعة سترحلون؟ يسخر محمد منه، ويقول له شاهراً بطاقته «أنا صحافي». إلا أن رجل الأمن لا ييأس، ويجيبه: «وإذا؟». يطلق عنصر آخر «النار» من كاميرته ملتقطاً صورة لمحمد، ثم يقول لزميله: «دعه يذهب».
في المقابل، واجه زميل آخر مشكلة معاكسة، حين شك المتظاهرون في أنه مخبر أمني (وعناصر الأمن والاستخبارت غير محبّبين إلى المتظاهرين عامة نتيجة طبيعة عمل الأمن السرية). وعندما أخبرهم أنه صحافي، لم يصدّقوه إلا حين تأكدوا من بطاقته. وبعد اعتصام القوى اليسارية، أمس، في منطقة فردان، صار الزميل نفسه مشهوراً، إذ كان واقفاً مع إحدى الصديقات المعتصمات، فوجد كاميرا «المعلومات» الشهيرة مسلّطة نحوه. كيف عرف أنه من فرع المعلومات لا من جهة أخرى؟ يضحك الزميل قائلاً: «هو نفسه الذي توجه إليّ بالأسئلة أمام السفارة المصرية وعرّف عن نفسه حينها». ويتابع، ابتسمت أنا وصديقتي وقلنا «باي للكاميرا»، يقول الزميل ضاحكاً، ويشير إلى أن المصوّر الأمني الذي يحمل الكاميرا على كتفه، والمسدس الحربي على خاصرته، ضحك هو الآخر.
بيد أن حضور الأجهزة الأمنية المراقبة ليس سيّئاً بالمطلق. «صرنا صحاب معن» يقول عربي العنداري، رئيس المجلس الوطني في اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني، المعتصم أمام الإسكوا منذ بداية العدوان الإسرائيلي. يرى العنداري أن المتظاهرين يعرفون زملاءهم، وأنهم يلاحظون بسهولة وجود عناصر أمنية محيطة، من دون تحديد الجهة التي يعملون لحسابها. أما عن التعامل معهم، فيقول العنداري ممازحاً: «إنهم يساعدوننا أحياناً». كيف ذلك؟ يعطي أفراد الأمن، أحياناً، الأعلام الفلسطينية للمعتصمين أمام الإسكوا.
ذات مرة، طلب العنداري من أحد رجال الأمن أن يعطيه الأعلام الفلسطينية والشعارات التي يستعملها أثناء تصرفه كمتظاهر، خلال قدوم بعض المنظمات الأخرى. فبعض تلك المنظمات تشارك في الاعتصام بدورها من حين إلى آخر، ويضطر رجال الأمن للحضور بينهم، لدواع أمنية مشروعة. المفاجأة أن رجل الأمن تجاوب، وأعطى بعض الأعلام للمعتصمين بعد إنهاء واجبه الأمني في إحدى التظاهرات! وفي حادثة مشابهة، يلفت سامر، عضو اتحاد الشباب الديموقراطي، إلى أن أحد رجال الأمن أصرّ على دفع ثمن القهوة له، حين كان برفقة أحد الأصدقاء، وقال له «أنتم تقومون بما لا يمكننا القيام به». قالها رجل الأمن، وابتسم راحلاً. ثمة انطباع عام عند المتظاهرين أنّ قسماً كبيراً من رجال الأمن لا يحبون ما يقومون به، وأنهم يقومون بواجبهم في ضبط الأمن وحسب: لا بد أن صور أطفال غزة تمزّق قلوبهم هم أيضاً.


إجراءات أمنية بحق رجال الأمن

أكد مسؤول أمني رفيع لـ«الأخبار» أن القوى الأمنية تدخلت حين حاول المعتصمون اقتحام الأسلاك الشائكة حول السفارات فقط. كما أن الجهات الأمنية الرسمية ترفض ظهور رجال الأمن بثياب مدنية وأسلحة ظاهرة، لأن ذلك يخالف المهمات الواجبة عليهم، والتي تقضي بمراقبة العسكر النظامي، المكلّف بضبط الأمن