حسين غريرلا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لنلاحظ أن الغالبية الساحقة من الناس، في كل الدول العربية، تمارس حياتها روتينياً وطبيعياً أثناء ارتكاب الكيان الصهيوني هذه المجازر في غزة، وكأن الأمر لا يعنيها. نعم، ثمّة بعض الاستثناءات البسيطة التي كسرت الروتين اليومي الطبيعي؛ فقد تركزت الأحاديث على بشاعة المجازر ودمويتها، وتُختَتم عادة بالدعاء على إسرائيل والدعاء بالصبر والنصر لأهل غزة. لا حاجة لنا هنا إلى إشارات تعجّب، لو نظرنا إلى مستويات استجابة الناس لما يحصل في هذه الأثناء في غزة من زاوية تختلف عن تلك التي تفترض أن العدوان يقتضي بالضرورة التعاطف معها، وهو ما يجب أن يترجم إلى تحرك على الأرض. إنّ مسألة ضرب غزة الآن لا تخرج، رغم وحشية المذابح، عن كونها تصعيداً آخر في الخط البياني للمسألة الأكبر، التي هي احتلال فلسطين. فإسرائيل، منذ وجودها، تتحرك بين المستويات المختلفة للعدوان حسب مقتضيات الضرورة. وبالتالي أجد أن معظم الناس قد فهموا أدوار اللعبة جيداً واستطاعوا بخبراتهم الموروثة والمكتسبة أن لا يُخدعوا بأن جديداً قد حصل، بل كل ما في الأمر، أن إسرائيل اعتدت على الفلسطينيين بطريقة استفزت مشاعر الناس واستنفرت غضبهم.
وما أولئك الذين يخرجون في التظاهرات بغافلين عن الأمر أيضاً؛ فبعضهم يخرج تنفيساً عن غضبه، وبعضهم الآخر ليبرر لنفسه أنه فعل شيئاً وأنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان. والبعض الأخير يخرج في محاولة حقيقية للتغيير.
مجزرة غزة هي مجرد جزء من صورة أشمل تمثل المشكلة بكافة تفاصيلها وأبعادها. والجماهير استطاعت أن تعي تماماً أن صورةً ما كبيرة هي ما يجب رؤيته وتحليله، لا هذا الجزء الظاهر للعيان الآن فقط. هي لا تعرف كيف استطاعت أن تعي ذلك ولا تعرف كيف يمكن رؤية الصورة الأكبر، لذلك غالباً ما تلجأ إلى طلب الحل من الزعماء أو تلجأ إلى الله بصفته القادر على كل شيء.
وتدرك إسرائيل وكل من يساندها ويتواطأ معها من حكومات غربية وعربية هذه الحقيقة. حتى إن بعض الحكومات العربية والأحزاب المعارضة العربية التي تعادي إسرائيل، تستغل عدم قدرة الجماهير على إدراك الصورة الأكبر لتشتت انتباهها عنها، وتبذل كل جهدها في سبيل التركيز على هذا الجزء، بل تبالغ في تعاطفها مع الواقع الآني الأسود حتى تُنسي الناس أنه مجرد جزء.
وبالفعل، نجحوا في ذلك إلى حد كبير واستطاعوا صرف أنظار المثقفين والناشطين عن الحقيقة وعن باقي المشهد، فتراكض الجميع إلى طلب وقف المجازر وحرصوا على تقديم أخبار المساعدات الإنسانية إلى أهالي غزة المنكوبين ومتابعتها.
كذلك فإنّ الحاجة ملحة لتقديم المساعدات الإنسانية والوصول إلى وقف المجازر (يسمى وقف إطلاق النار). فمن الملحّ أيضاً أن نعمل على فهم المشكلة برمتها وفهم ما نريده وما يجب على كل طرف فعله، لا أن نكتفي بالتنديد بالصمت العربي والدولي ونطالب بالتحرك لفعل شيء ما لوقف هذا النزف.
ماذا إن لعبت إحدى دول محور «الاعتدال العربي» دوراً أساسياً في وقف إطلاق النار؟ هل نبارك لها عملها، أم يجب أن نفهم أنها، في لحظة معينة، أُجبرت على اتخاذ موقف كهذا، أم أن التوازنات الدولية في تلك اللحظة اقتضت وقف إطلاق النار؟ هل تحل المشكلة بذلك؟
المشكلة الحالية هي أن إسرائيل تريد تغيير الواقع على الأرض، أي تريد القضاء على «حماس» أو سلطتها في غزة، وهذا هو الهدف المعلن والحقيقي لهذا العدوان. كذلك تطالب العديد من الدول العربية والغربية الحركة الإسلامية بالتخلي عن المقاومة (يقولون عنه عدم إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل). و«حماس» هذه، ليست سوى حركة ولدت من رحم شعب تعرض ويتعرض كل يوم لمختلف صنوف الممارسات القمعية الإجرامية من كيان الاحتلال الإسرائيلي. أي إن القضاء عليها أو إضعافها، يعني قتل قيادييها وتفرقة صفوفها وشل مؤسساتها. لكن يستحيل (بل هي أضغاث أحلام) تصفية كل كوادر «حماس» وكل كوادر الفصائل المسلحة الأخرى، لأن سبب وجود حماس وباقي الفصائل (أي المقاومة) لم ينتفِ، وبالتالي سوف تعمل على إعادة تكوين نفسها من جديد، وسوف تخلق حركات وفصائل أخرى، ربما أكثر تطوراً من حيث ممارستها لقواعد اللعبة، وبالتالي تلحق ضرراً أكبر بإسرائيل.
ثم ماذا؟ نعود مرة أخرى للحديث عن مجازر ترتكب بحق الفلسطينيين في كل من غزة والضفة الغربية (مجازر جنين في 2002 لم ولن تُنسى). ونعود مرة أخرى للغضب واتهام بعض الأنظمة العربية بالتآمر والتواطؤ والعجز (وهذا هو الواقع في كل الأحوال)، ونطالب باجتماع طارئ لوقف إطلاق النار.
وبعد الوصول إلى نقطة معينة في لعبة عضّ الأصابع، تعلن الأمم المتحدة وقفاً فورياً (بعد 33 يوم مثلاً) لإطلاق النار، ويرتاح بذلك ضميرنا ويلتئم جرح إنسانيتنا. ثم ننسى لماذا بدأ القتل أساساً.
إذا استطعنا أن نعي الصورة الكاملة التي يمثّل وجود الاحتلال الكولونيالي الصهيوني أحد مشاهدها الأساسية، استطعنا أن نفهم لماذا لا أحد يريدنا أن نفهم هذه الصورة، لأنها سوف تكشف لنا أهم مشهد. ذلك الذي يُظهر تواطؤ أو عدم رغبة، أو في أحسن الأحوال عجز الحكومات العربية عن الفعل.
أما آخر المشاهد الرئيسية في الصورة، فهو انعدام الثقة والأمل عند الجماهير، وبالتالي إصابتها بالشلل وعدم القدرة والرغبة بمحاولة تغيير باقي المشاهد الأخرى.