سيمون كريتشلي*شيء من الوحدة القاتلة يَسِمُ عالم باراك أوباما. يجتاح المرء شعور غامر بأنه شخص يتوق إلى اتصال، إلى شيء يربط الكائنات البشرية بعضها ببعضها الآخر، إلى مجموعة وتجمُّع، إلى ما يسمّيه تكراراً «خير الجماعة». بالطبع ليس هذا بالخبر الجديد. فقد عرفنا، منذ خطابه الرئيس في المؤتمر الديموقراطي الوطني عام 2004، أنه «ما من أميركا سوداء وأميركا بيضاء وأميركا لاتينية وأميركا آسيوية ـــــ بل الولايات المتحدة الأميركية». فعلاج أوباما لخيبة الأمل من السياسة، الخيبة المتفشية في الولايات المتحدة ـــــ هو إعادة تثبيت فعل الاتحاد. ويمكن تحقيق ذلك فقط بقدر ما نعيد للأمة شعوراً بأنها تمثّل جماعة، ما يتطلب بدوره إيماناً بخير الجماعة. فأمام اللامساواة الفاضحة، والأداء الحكومي الرخيص والفوضوية المعمّمة، نحتاج إلى «تثبيت روابط كل منا بالآخر». ويمثّل الإيمان بخير الجماعة الأساس الوحيد للأمل. فمن دون إيمان، لا يمكن الإتيان بأي عمل. تلك هي الأسس المعلنة، التي لا يُرجَّح تحقّقها، لكلّ الحملة التي روّجت لترشّح أوباما للرئاسة.
الانتقاد الواضح الذي يمكن المرء أن يوجّهه هو أنّ افتراضاً غير واقعي ومعاكساً للسياسة يتحكّم في سياسة أوباما. وهو يكمن خلف التماس خير الجماعة عندما يقول «لا أحد معفى من الدعوة إلى إيجاد أرضية مشتركة»؛ أو «على عمق بسيط من السطح، أعتقد أننا نصبح أكثر، لا أقل، تشابهاً»، قد يزعم المرء أن هذا هو التضليل المألوف لتحقيق غاية في السياسة، فرضيّة إقامة دولة نستطيع فيها أن نضع خلافاتنا جانباً ونتغلّب على التحازب، ونتّحد من أجل شفاء الأمة. والتوق ذاته إلى الاتحاد يسود خطاب أوباما المتعلق بالعِرق، مع دعوته إلى التحالف بين السود والسمر، وملاحظته المسكّنة للنفوس القائلة إنه «عن صواب أو عن خطأ، استنزف شعورُ البيض بالذنب نفسَه إلى حد كبير». يحلم أوباما بمجتمع يخلو من علاقات سلطويّة، من الصراع الذي يمثّل الحياة السياسية. أمام مثل هذا الموقف، يستطيع المرء أن يؤكّد أنّ العدالة دوماً صراع، نزاع، ويعني رفض هذا التأكيد تخصيص الكائنات البشرية بالتقلّب في نوع من بلسم عاطفي انصهاري. وقد يضيف امرؤ قائلاً إن مصدر هذا التوق إلى الاتحاد يكمن في غيابه. فنحن نريد بقوة أن نصدق لأننا لا نصدق ولا نستطيع أن نصدق. قد يكون التوق إلى خير الجماعة متأتّياً عن رفض القبول بأن الأميركيين يملكون ربما القليل من القواسم المشتركة، باستثناء العناصر المكونة لدين مدني ناجح أحياناً، يتمحور حول تعلّق عاطفي بالدستور، حتماً يُدمع العينين بين الفينة والأخرى، إضافة إلى اعتقاد بما يشبه ألوهية حكمة الآباء المؤسّسين.
أمام رئاسة جورج بوش السياسية بشكل مفرط ـــــ توسيعه الكبير للسلطة التنفيذية واعتماده سياسة ترهيب تستند إلى تحديد العدو بأنه شرير أخلاقياً ـــــ لا يصعب فهم الشعبية التي نالتها وجهة نظر أوباما المناهضة للسياسة. فبمواجهة الحقائق التي يعلمها بوش الثاني علم اليقين، يعد أوباما بالعودة إلى ليبرالية مبهجة يُعدّ فيها كل شيء نوعاً صغيراً من الإجماع. إنه عالم فيه يحل التشاور الديموقراطي العزيز القديم محل امتلاك سلطة القرار، وفيه يقوم مدّ وجزر الحوار المدني مقام الاستبدادية الدينية. ليست الديموقراطية بيتاً يُبنى بل «حوار يُجرى». بعد ثماني سنوات كارثية اتصفت بشكل فاضح بسوء الإدارة والتكتّم والكذب، يبدو ذلك أشبه بأمل مبهج.
حتماً قد يتساءل المرء كيف تتماشى فكرة أوباما القائلة بإخلاء العالم السياسي من علاقات سلطوية مع إيمانه بالصراع الرأسمالي وبالمنافسة وبفوائد الأسواق الحرة. كما قد يتساءل المرء أيضاً عن الطريقة التي يمكن أن يبدأ فيها مثل هذا الموقف السياسي بالتعامل فعلياً مع الفقر. ولكنني لا أريد أن أسلك طريق النقد التقليدي للّيبرالية، ومفاده أنه يتم إقصاء السياسة لمصلحة تشعبات الأخلاقيات من جهة، والاقتصاد من جهة ثانية، وما الأولى إلّا حجاب الخبث المستخدم لإخفاء عنف الثاني. لا أريد حتى أن أتقدم بأي نقد لأوباما. بل أفضّل أن أصف حيرة لا أظنني الوحيد الذي يختبرها. فالذي يذهلني هو ما يمكننا تسميته ذاتية أوباما وكيف تصوغ رؤيته السياسية، وكيف يمكن أن يبدأ ذلك بتفسير الافتتان الشعبي به.
بعد مشاهدة عدد لا يحصى من الخطابات والتمعّن بقراءة كلماته، لا أعرف بتاتاً من يكون باراك أوباما. إنه لأمر عجيب غريب. كلما أمعن المرء بالإصغاء والقراءة، ازداد شعوره بأن الذي أمامه أكمد. خذ على سبيل المثال كتابه الذي يحمل عنوان «جرأة الأمل»: يتصف فيه أسلوب أوباما بكلام نثري سهل، غير رسمي ولا متكلف. يتحدث عن الذهاب إلى صالة التمارين الرياضية، وطلب شطيرة لحم مع الجبن، والتخطيط لحفلة عيد ميلاد ابنته وكل الأمور الأخرى. يمزج تصريحات تتضمن مواقف، وملخصات تورد أبرز نقاط السياسة العامة مع سرد سيرته الذاتية بطريقة سلسة تشد القارئ. ومع ذلك أجد نفسي أسأل مراراً وتكراراً: من هو هذا الرجل؟ لا أقصد أي سوء بهذا الكلام. لكن شعوراً بازدياد المسافة الفاصلة عن أوباما غمرني فيما كنت أقرأه، وكلما ازداد نثره صدقاً، اشتد شعوري بكبر المسافة. يعترف في بدايات الكتاب بأنه شخص لا ينفعل للأمور بسهولة. ولكنني أحياناً أفضّل لو أنه يفعل. فالغضب هو الانفعال الذي يولّد الحركة، والحالة النفسية التي تدفع الإنسان إلى الفعل. ربما يكون هو الانفعالَ السياسي الأول.
في صميم «جرأة الأمل» شخص يعيش على مسافة، شخص على مسافة من نفسه ومن الآخرين ويلتمس رابطاً، التزاماً يربطه بأميركيين آخرين ويربط الأميركيين معاً. ثمة خوف حقيقي من الفراغ لدى أوباما، رعب من الوحدة والعدم. يتوق إلى التزام غير مشروط يقولب ذاتيّته ويملأ الفراغ. يرغب في ملامسة شيء من التمام، اختبار امتلاء قد يهدّئ من شعوره بالوحدة، ويملأ عزلته، ويسكت شكوكه اللامتناهية ويسكّن أحاسيسه بالهجر. يبدو أنه يجد ذلك في المسيحية.
ولكن قد تكون الكمدةُ عبقريةَ أوباما السياسية: فبالتحديد طبع أوباما الغامض والهامد هو الذي يبدو أنه يولد الرغبة في التماثل معه، وحتماً في حبه. ربما هو ذاك الشعور بالمسافة الداخلية التي يراها الناس فيه وفي أنفسهم. وقد اعترف أوباما بهذه القدرة في ملاحظة آسرة عميقة عندما كتب «أؤدّي دور شاشة بيضاء يُسقط عليها أشخاص من خطوط سياسية متباينة للغاية وجهات نظرهم الخاصة». إنه مرآة تعكس للناظر كل ما يريد رؤيته. وبشكل من الأشكال، تصبح وحدتنا وشكنا مركّزَين في وحدته وشكه، منصهرَين فيهما. وتمسي رغبة أوباما في الاتحاد مع خير جماعة موحدة برغباتنا. لتلك اللحظة، وربما لتلك اللحظة وحدها، نؤمن ونأمل. إنها نشوة مكبوحة بشكل غريب، لكنها نشوة مع ذلك.
الغنائية التي تجلت في مقاطع دون أخرى من نثر أوباما يتملكها جمال عظيم. شكوكه في كونه أباً وزوجاً في الفصل الأخير من «جرأة الأمل» مؤثرة وصادقة. وعندما ينهي كتابه، يكتب على غرار روسو شاب «قلبي مفعم بحب هذا البلد»، ولا أستبين أي سلبية في كلامه هذا. ومع ذلك يكتب أوباما ويتكلم بعين المتخصص في علم الإنسان (أنثروبولوجيا)، مع شعور بأنه ليس مشاركاً في العالم الذي يرغب بقوة في التواصل معه عن كثب. فالتجربة تبقى وتُقام دوماً على مسافة.
في «جرأة الأمل»، المقطع الذي يركّز هذا الشعور بالمسافة الفاصلة ويعقّد المشكلة التي أريد معالجتها هو ذاك المتعلق بموت أمه من داء السرطان عن عمر اثنين وخمسين عاماً، عندما كان أوباما يبلغ 34 من العمر. فلمرة كتب وهو في خضم أحاسيس حادة شعر بها:
«أكثر من مرة رأيت خوفاً يومض في عينيها. أكثر من الخوف من الألم أو الخوف من المجهول، كانت وحدة الموت المطبقة هي التي أخافتها، فكرة أنّها في هذه الرحلة النهائية، في هذه المغامرة الأخيرة، لن يكون معها أحد يشاركها تجربتها بالكامل، لا أحد يمكنه أن يندهش معها من قدرة الجسد على إنزال الألم بنفسه، أو يضحك من عبثية الحياة المطلقة عندما يبدأ شعر المرء بالتساقط وتتوقف غدده اللعابية عن العمل».
كانت أمه متخصصة في علم الإنسان، وتوفيت كمتخصصة في علم الإنسان، مع شعور بمسافة بينها وبين الآخرين وعجز عن مطارحتهم أفكارها وإبلاغهم ألمها. ربما هنا تكمن جذور خوف أوباما من الفراغ. ولكن لنفهم ذلك، علينا العودة إلى ما قاله عن الدين.
لماذا نحتاج إلى الدين؟ يعترف أوباما بأن الناس يلجأون إلى الدين لأنهم بحاجة إلى «مخطط سردي» لحياتهم، شيء يخفف من وحدة مزمنة أو يرفعهم فوق كدح الحياة اليومية المرهق القاسي. «فالبديل واضح: العدمية. وتعني هذه الأخيرة «السفر على طريق طويل نحو العدم». يلبي الدين الحاجة إلى اختبار شعور بالامتلاء، إلى سموّ يملأ الفراغ. ويبرز سلوك أوباما درب المسيحية أمام خلفية المسافة التي أبقتها أمه الأنثروبولوجيّة، عن الدين الذي كانت تجلّ.
كالعديد منا، ينظر أوباما أولاً إلى ما يسميه «الفلسفة السياسية» طلباً للمساعدة. يريد تثبيت القيم التي ورثها عن أمه (النزاهة، والتقمص العاطفي، والانضباط، والمكافأة المؤجلة، والكد في العمل)، ويبتغي سبيلاً لتحويلها إلى أنظمة عمل «من شأنها أن تبني المجتمع وتجعل العدالة أمراً واقعاً». وبشكل لا يدعو إلى العجب، وربما أيضاً كالعديد منّا، لا يجد الجواب في الفلسفة السياسية، بل فقط من خلال مواجهة معضلة لم تحلّها أمه يوماً. كتب قائلاً:
«المسيحيون الذين عملت معهم رأوا أنفسهم فيّ؛ رأوا أنني أعرف كتابهم المقدس وأشاركهم قيمهم وأنشد تراتيلهم. ولكنهم شعروا بأن جزءاً مني بقي بعيداً، منفصلاً، مراقباً بينهم. وأدركت أنني من دون إناء لمعتقداتي، من دون التزام لا لبس فيه بجماعة دينية محددة، سيكون مقدّراً لي أن أبقى منفصلاً، حراً بالطريقة التي كانت فيها أمي حرة، ولكن وحيداً أيضاً بالطرق نفسها التي كانت فيها وحيدة وحيدة».
الحرية بالنسبة إلى أوباما هي الحرية السلبية من الالتزام التي تركت أمه تشعر بأنها منفصلة ووحيدة، وحدة بلغت ذروتها بموتها. تلك هي حرية الفراغ. فأن يحترم المرء كل الديانات احترام المتخصص في علم الإنسان لها، يعني أن يكون غير ملتزم بأي منها، أن يُترك للانجراف من دون مثبّت لأعمق معتقدات الإنسان. وامتلاك مثل هذا المثبت يعني الالتزام بجماعة محددة. والسبيل الوحيد الذي يستطيع من خلاله أوباما أن يتخطى شعوره بالانفصال ويحل معضلة أمه هو عبر التزامه بالمسيحية. وبشكل أكثر تحديداً، فقط عبر التزام الكنيسة السوداء تاريخياً يستطيع أوباما أن يجد ذلك الشعور بالتثبيت والامتلاء. وبلغ الأمر ذروته بانضمامه إلى كنيسة الثالوث المتحد المسيحية التي كان مسؤولاً عنها القس جيريمي رايت في جنوب شيكاغو. كيفما نُظر إلى الأمر، فإن المحورية المطلقة للمسيحية السوداء الأميركية في مخطط أوباما السردي هي ما تجعل من علاقته النكدة مع القس رايت مثيرة للفضول إلى هذا الحد. ففي الجوهر، كل شيء يدور هنا حول العلاقة بين الكلمة النبوئية (قول رايت «لعن الله أميركا» وعمل الحكومة («قلبي مفعم بحب هذا البلد»).
الأكيد بالنسبة إلى التزام أوباما بالمسيحية هو أنه خيار، خيار عقلاني اتخذ بذهن صاف، لا تجربة هداية ترتكز على أي وحي شخصي. يصرّ على القول إن «الالتزام الديني لم يتطلب مني التوقف عن التفكير النقدي... فقد تم كخيار لا كوحي مفاجئ؛ لم تختفِ بشكل سحري الأسئلة التي كانت تراودني. ومع أنه يتابع مضيفاً «شعرت بروح الله تومئ إلي»، إلا أنها أجمل تجربة التزام ديني، التجربة الأكثر تجرداً التي لا يظهر فيها أي أثر لانتقال ونشوة نابعين من الوحي. لا يسعني إلا الشعور بأن إيمان أوباما يلتمس تجربة مشاركة يناقضها الشعور بالانفصال وبالمسافة الذي يسعى إلى التغلب عليه. مثلاً، عندما كان غير واثق من جوابه لابنته حين طرحت عليه سؤالاً يتعلق بالموت، قال «تساءلت عما إذا كان يجب علي أن أخبرها بالحقيقة، بأنني غير واثق مما يحدث عندما نموت، كما أنني لست واثقاً أين تكمن الروح أو ماذا وُجد قبل الانفجار العظيم».
يمكن تفهّم مثل هذه الشكوكية في أمور ماورائية ولها أسلاف فلسفية قوية. ولكن ما تأثيرها علينا، وما تأثيرها على مسألة الإيمان، وهو حجر الزاوية في حملة أوباما الرئاسية كلها؟ نعود إلى حيث بدأنا بالنسبة إلى خير الجماعة. يريد أوباما أن يؤمن بخير الجماعة كطريقة لتأمين شعور بالامتلاء يمكن اختباره ويحول دون الانزلاق نحو العدمية. ولكنني أحياناً لا أعرف إن كان يعرف ما هو الإيمان، وما يعني أن يكون للمرء مثل هذا الإيمان. فكل شيء يبدو على مسافة بعيدة وأكمد للغاية. الحضور الملح لمعضلة الأم ـــــ الشعور بالوحدة والشك والهجر ـــــ يبدو ملموساً ولا يمكن إقصاؤه. يجب أن نؤمن ولكننا لا نستطيع أن نؤمن. ربما تلك هي المأساة التي يراها بعضنا في أوباما: تغيير نستطيع أن نؤمن به وإدراك ساحق بأن لا شيء سيتغير.

* أستاذ الفلسفة في الكليّة الجديدة للبحث الاجتماعي ــ نيويورك
(عن مجلّة هاربرز ــ ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)