في 25 كانون الأول 2008، ارتفع العلم السوري فوق مبنى السفارة السورية في شارع المقدسي في الحمرا، ليتحقق بذلك مطلب لبناني قديم. لكن، ماذا عن السوريين المقيمين في لبنان، هل يحقق لهم وجود سفارة لبلدهم شيئاً؟
مهى زراقط
يجهد العنصر في قوى الأمن الداخلي، الواقف أمام مبنى السفارة السورية في شارع المقدسي في الحمرا، ليحافظ على تعابير وجهه خاليةً من أيّ انفعال. ينجح في ذلك إلى حدّ أننا عندما نوجّه إليه الكلام، يبدو كأنه لا يسمعه أصلاً. زميله، رجل أمن أيضاً، يبدو أقلّ حذراً. لا يجد ضرراً في إخبارنا أن مكاتب السفارة السورية لا تزال خالية إلا من مهندسين وعمّال يضعون اللمسات الأخيرة على مكاتبها. عبر زجاج الطبقة الأرضية، يمكننا رؤية مكاتب جلدية سوداء ملفوفة بأكياس شفافة. التحضيرات تسير على قدم وساق و«نتوقع أن يبدأ العمل في السفارة بعد عشرة أيام» يقول لنا.
حالة الانتظار التي يعيشها اللبنانيون، تسري أيضاً على السوريين المقيمين في لبنان، الذين يتساءلون عن الفائدة التي سيحققها لهم وجود سفارة لبلدهم هنا.
ترتسم ابتسامة خجولة على وجه أحمد، الشاب السوري القادم من حلب، لكنه لا يرفع عينيه عن أرض الغرفة الصغيرة التي جلسنا فيها مع أربعة من مواطنيه. حتى عندما يتشجع ليجيب عن السؤال عن رأيه بإنشاء سفارة سورية في لبنان، يرمي كلمة واحدة: «أمان».
مثله، يفعل زملاؤه. يختصرون إجاباتهم، مكتفين بإيصال ما يرونه مهماً. ذلك أن الخجل الذي منعهم من رفض الحديث معنا، لم يحل دون اتخاذهم تدابير الحذر. يحرص الأكبر سناً بينهم على طلب عدم ذكر أسمائهم كاملة.
هو وائل، أربعيني، يعمل بلاطاً في لبنان منذ بداية الثمانينيات. ثلاثة أحداث جعلته يقطع إقامته فيه ويعود إلى سوريا: الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حرب التحرير عام 1989، والأزمة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. في المرة الأخيرة «تضايقنا كثيراً، صرنا نخاف من الخروج وحتى من التحدّث بلهجتنا». لذلك يرحّب بإنشاء السفارة: «سيصبح لدينا مرجع نلجأ إليه في حال تعرّضنا لمكروه».
رائد، الذي تعرّض للاستجواب من القوى الأمنية أكثر من مرة خلال تلك المرحلة، ينتظر وصول السفير(ة) بفارغ الصبر: «لكي يصبح وضعنا مثل وضع أي سائح آخر يستقبله اللبنانيون على الراحات». «لكنك لست سائحاً في لبنان، أنت عامل» نقول. «أعرف، لكني لم أكن أشعر بأن وضعي قانوني، السفارة لن تسمح لأي لبناني بأن يعيّرني مجدداً. صرنا مثلنا مثل كلّ أجنبي يقيم في لبنان».
وحده طلال يبدو أكثر جرأة من زملائه. يقول إنه لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال قبل أن يعرف ما ستقدمه له هذه السفارة: «لا نعرف بعد ما هو دورها. هل ستطلب منّا جوازات سفر؟ هل ستتغير المعاملات القانونية عند الحدود؟ هل يجب أن ننجز إقامات؟». ذلك أن السوري يكتفي فقط بزيارة الحدود اللبنانية ـــــ السورية مرة كلّ ستة أشهر ليجدد دخوله إلى لبنان، وهذا ما يعفي السوريين من كلفة الإقامة المرتفعة بالنسبة إليهم.
لا تختلف مطالب العمّال عن مواطنيهم من الطلاب. كمال، طالب حقوق، سعيد لأنه «سيصبح لنا ظهر»، رغم اعترافه بأنه لم يتعرّض يوماً لأي مضايقة، «لكني أشعر بعنصرية بعض اللبنانيين تجاهي». لا يقول كمال ما هو الدور الذي ستقوم به السفارة للتخفيف من هذه العنصرية، يكفيه الاعتقاد بأن مجرد وجودها «سيطمئن اللبنانيين ويقنعهم بأننا لا نريد احتلال لبنان».
أحمد خلف، يكتفي بالتوقع: «بالتأكيد سيكون هناك اختلاف بالنسبة لأوضاعنا، لكننا لا نعرف ماهيّته بعد». هو، بخلاف بقية مواطنيه، لا يسأل عن الحماية والأمان بقدر الإجراءات القانونية «سمعت أن رسم الدخول عند الحدود ستنخفض قيمته، لكننا لا نعرف شيئاً عن تنظيم إقامتنا هنا».
هذا الأمر هو ما يجعل رياض متخوّفاً «إذا تغيّرت المعاملات القانونية قد أصبح مجبراً على زيارة السفارة، وهذا ما لا أرغب به. لا أريد أن يعرفوا بوجودي في لبنان أصلاً». رياض، اسم مستعار لصحافي شاب يعمل في لبنان، طلب عدم ذكر اسمه، لأنه يخشى أن تكون السفارة «مقرّاً جديداً للاستخبارات يعدّ التقارير عن السوريين المقيمين هنا». في المقابل، يرحب بوجودها فقط «لكي يصمت زعماء 14 آذار ويخففوا من عنصريّتهم تجاهنا».
لكن حسان، موظف ثلاثيني يعيش في لبنان منذ عام 1994، لا يتوقع أي تغيير على هذا الصعيد. برأيه، نظرة بعض اللبنانيين العنصرية ضد السوريين، ليست نتيجة للأزمة الأخيرة. يذكر ضاحكاً أنه كان دائماً مصدر خوف لزملائه في الجامعة: «في لبنان نظرة مسبقة إلى السوري، بأنه يعمل لمصلحة الاستخبارات، وقد بقيت حتى السنة الأخيرة في الجامعة أتعرّض لتعليقات اتهامية، ترِدُ على سبيل المزاح مثل: ماذا كتبت اليوم في التقرير؟».
وليد بدوره لا يرحب بإنشاء السفارة التي ستضاعف مشاكله. هو تزوج من فتاة لبنانية عام 2005، وينتظر مولوداً. يقول إن إصدار وثيقة ولادة سورية يتطلب أشهراً من المعاملات بسبب كثرة المؤسسات المعنية، «أخشى أن تكون السفارة مؤسسة إضافية عليّ المرور بها». لذلك يجزم: «بصراحة، بالنسبة إلينا كسوريين، هناك انطباع عام بأن هذه السفارة هدية ثمينة قدّمت إلى لبنان، لأنه ليس هذا ما نحتاج إليه فعلاً». ما يحتاج إليه السوريون، «جمعية للطلاب وأخرى للعمّال. هؤلاء يواجهون الكثير من المشاكل التي تحتاج إلى من يساعد في حلّها مع الدولة اللبنانية».
الرأي نفسه يعبر عنه سليمان، تاجر ثمانيني، يعيش في لبنان منذ قدم إليه قبل عقود للدراسة في الجامعة الأميركية. يقول بداية بلهجة من سلّم بالأمر الواقع: «السفارة كويسة، مش هيك إنتو بدكن؟»، لكنه لا يلبث أن يستطرد، بلهجة عتاب: «والله يا عمّو، هذه عودة إلى الخلف في العلاقة بين البلدين. السوريون لا يحتاجون إلى سفارة هنا، يمكنهم إنجاز كلّ معاملاتهم بسهولة لأن الشام تقع على بعد خطوتين من بيروت». الرجل الثمانيني، الذي يعرّف عن نفسه بأنه قومي عربي، لا يخفي حزنه، مكرّراً بصوت لا يخلو من انفعال خطاباً يعود إلى بدايات القرن الفائت: «لقد أجبروا السوريين على الاعتراف بسايكس بيكو».
برأيه، كلّ قصة السفارة هدفها إرضاء اللبنانيين، بما فيها اختيار السفير، مرجّحاً أن يستقرّ الخيار على الروائية كوليت الخوري. يقول سليمان: «أرسلنا لكم أفضل شخص عندنا. إنها حفيدة فارس الخوري، إحدى أهمّ الشخصيات في سوريا».
رياض، يجد في هذا الخيار نوعاً من محاولة إضفاء المزيد من الإيجابية على العلاقة بين الدولتين: «اختاروا شخصية ثقافية، اسمها لا يثير حساسية لأنها غير معروفة بأنها قريبة من النظام، إضافة إلى وجود صلات قرابة لها في لبنان». لكنه في المقابل لا يجده خياراً إيجابياً بالنسبة إلى السوريين: «نحن نسأل دائماً ماذا فعل مثقفو النظام من أجل زملائهم المثقفين الموجودين في السجون؟». هذا ما يجعل حسّان واثقاً من تحليله بأن اختيار الروائية الخوري هدفه رمزي أكثر من كونه عملياً، ولا سيما بسبب عمرها المتقدّم: «لا نعرف قدرتها على الحراك في بلد حيوي مثل لبنان».


أوّل دخولو!

لم ينتظر الإعلاميون بدء العمل الرسمي في السفارة السورية ليباشروا بتغطية أخبارها. فقد كان الخبر الأول، الذي تلى رفع العلم السوري في 25 كانون الأول 2008، عن الاعتصام الرمزي الذي شهده محيط السفارة خلال الحرب الإسرائيلية على غزة. هذا الاعتصام (16 كانون الثاني الفائت) جاء في إطار جولة للمنظمات الشبابية اليسارية على كلّ السفارات العربية في بيروت، مطالبة إياها بمواقف جدّية.
صحيح أن الاعتصام لم يكن عدائياً، إلا أنه يدلّ على بداية ولادة حراك سياسي جديد على خط شارع المقدسي حيث يثير موقع السفارة مخاوف عدد كبير من روّاد شارع الحمرا وتجاره. سبب هذا التخوّف أمني بالدرجة الأولى، ولا يخفي عدد من الشبان أنهم باتوا يحاولون عدم المرور في الشارع خوفاً من تعرّض السفارة لحادث ما.
يقول أحدهم، وهو من المطالبين بتمثيل دبلوماسي بين البلدين، إن سوريا عرفت كيف تنغّص عليهم فرحة قرار إنشاء السفارة من خلال هذا الاختيار الذي «سيحوّل الحمرا إلى منطقة أمنية، وينزع عنها طابعها المميز».