اجتازت المرأة عدداً كبيراً من الخطوط الحمراء التي تحول دون مشاركتها في مختلف ميادين الحياة العملية، وهي الآن تحتل مواقع كانت حكراً على الرجل، إذ لم تعد أصوات الممانعين لتولي المرأة بعض المهام تلقى صدى، عندما أثبتت كل مرة أنها جديرة بالقيام بكل ما يطلب منها على أكمل وجه. الحضور الأنثوي لافت جداً في السلك القضائي، ومن المتوقع أن يستمر بالتمدد ليغطي أكثر من نصف القضاء قريباً
ماجدة سبيتي
يمكن القول إن المرأة في لبنان تقدمت تقدّماً كبيراً في سبيل تحصيل حقوقها وبتر التمييز ضدها، رغم وجود عدد كبير من القوانين المجحفة بحقها، سواء لناحية قانون الجنسية والأحوال الشخصية، وما يتفرع عنها لناحية الحضانة، أو لجهة قانون جرائم الشرف والزنى. لكن ما مدى انطباق هذا التصور على الجسم القضائي قي لبنان؟
بدأت المرأة مشاركتها كقاضية منذ أربعين عاماً. وتشير الإحصاءات الحالية إلى أن القضاء العدلي يضم 446 قاضياً (300 ذكور و146 إناث). أما في التشكيلات القادمة، فمن المنتظر إلحاق قضاة جدد يزيد عددهم على 105 تخرجوا خلال الأعوام الثلاثة الماضية من معهد الدروس القضائية، بينهم نحو 40 قاضية، وهذا ما يرفع عدد القاضيات إلى 186. وخلال العامين المقبلين، ستترتفع نسبة الإناث إلى الذكور في سلك العدالة، إذ سيحال قبل عام 2011 38 قاضياً من الرجال على التقاعد، من دون أي قاضية. تقاعد الرجال ودخول النساء يعنيان أن أكثرية قضاة لبنان سيكونون من النساء. وقد توقعت وزارة العدل أن تصبح القاضيات 60 % من عديد القضاء العدلي، وتتوزع تلك القاضيات على مراكز قضائية مهمة، منها على سبيل المثال: رئيسة محكمة التمييز العسكرية، إضافةً إلى قاضيات تحقيق جزائيّات ومحاميات عامّات وقاضيات جزاء منفردات، ورئيسة محكمة الجنايات في بيروت، ورئيسة الهيئة الاتهامية، وعضوة مجلس القضاء الأعلى، وعضوات في مجلس شورى الدولة...
إن هذا المد الأنثوي على الجسم القضائي دفع أحد مجالس القضاء إلى أخذ قرار برفض ترشيح النساء بسبب زيادة أعدادهن، والخوف من ألّا يتمكنّ من تخطي بعض الصعوبات التي قد تواجه النساء، ومنها على سبيل المثال إجازات الأمومة، وخاصة في المحاكم المدنية، إذ كانت المرأة مستبعدة عن تولي القضاء الجزائي. بعد هذا القرار بدورة واحدة، تمكنت القاضيات من الوصول إلى القضاء الجزائي من بابه العريض، وكان عام 1992 أن أصبحت أولى السيدات قاضية تحقيق تستطيع إصدار مذكرات توقيف بحق ذكور.
لكن هذا لا يعني أن القاضية لا تواجه عنفاً معنوياً من بعض المتهمين، إذ تذكر إحدى القاضيات أنه في إحدى المحاكمات صاح المتهم: «يا حرمة، كيف فيكي توقفيني؟»، لكنها رأت أن القاضي يجب بالدرجة الأولى أن يفهم الإنسان والبيئة الاجتماعية التي تؤثر فيه.
ويرى بعض القضاة أن تقدُّم أعداد النساء في القضاء مرده لكون مباراة الدخول للمعهد القضائي تأخذ طابعاً أكاديمياً، وعادة ما تكون الفتيات أكثر مواظبة على الدراسة من الشبان، عدا عن أن المرأة دائماً في تحدٍّ اجتماعي لإثبات تميزها وقدرتها على التفوق وتحمّل المسؤوليات ما يضع على كاهلها هماً يحفزها على العمل والإصرار، لإسكات الصوت الاجتماعي الذكوري، الذي يرى أن المرأة أقل قدرة جسمانية وعقلية من الرجل، وبالتالي لا تستحق تولي مراكز سلطوية.
ولم تنفِ إحدى القاضيات أن المرأة عاطفية، وتؤثر عواطفها في الحكم، فرأت «أن عاطفة المرأة تساعد على عدالة الأحكام من خلال التعاطف مع المظلوم في وجه الظالم، وهذا التعامل الإنساني والعاطفي يخفف من الفساد داخل الجسم القضائي». وتوضح الرئيسة: «نادراً ما يرغب الرجال في تولي منصب قاضي الأحداث، أما المرأة، فتشعر بأن من واجبها القيام بهذه المهمة». وتردف قاضية أخرى بالقول: «إن وصول المرأة إلى أن تكون قاضية متفوقة لا يعتمد فقط على نجاحها في المعهد القضائي ونيلها لقب قاضية، بل يجب أن تتكابر على الأحاسيس المتعلقة بكونها امرأة وألّا تتعطّل عن عملها إزاء أي طارئ فيزيولوجي، وتخطيها لكل هذه المعوقات يمكّنها من التقدم في عملها وقطع الطريق أمام الذين ينتظرون أي تقاعس ولو كان طبيعياً من المرأة لإثبات فشلها وعدم قدرتها على تحمل المسؤوليات، وما دامت المرأة تملك الإرادة والإصرار على الوصول فلا توجد قوة تمنعها من التفوق، ما دام الدستور اللبناني لا يتضمن أي نص تمييزي ضد المرأة، بل يكرس المساواة بين جميع المواطنين".
إيجابية أخرى تتحدّث عنها قاضيات. فالسلطة القضائية تقف دوماً أمام هاجس الفصل الهش للسلطات، ويُخشى في أي لحظة من أن تصبح رهينة السلطة السياسية. وتقول إحدى القاضيات: «في التحليل السيكولوجي أن القاضية أقل تعرّضاً للضغوط السياسية من القاضي، لأن الرجل السياسي لا يملك الجرأة المعنوية للتنازل عن ذكوريته للاتصال بامرأة والتوسط لديها للحكم لمصلحة أحد المحسوبين عليه».
من ناحية أخرى، تروي إحدى المحاميات أنها أحياناً تشعر بهيبة أمام القاضية تفوق تلك التي تشعر بها أمام القاضي، معتبرةً أن القاضيات تمكّنّ من إثبات أنفسهن بقوة داخل المحاكم.
هذا بالنسبة إلى القضاء العدلي، أما بالنسبة إلى القضاء الديني المذهبي فلا يلحظ سوى وجود مستشارات، من دون وجود أي قاضية، إذ إن رجال الدين هم وحدهم أسياد هذا السلك، ربما لعدم وجود مكان لنساء دين. ويطرح هذا الأمر بالطبع إشكالية أخرى بشأن الأحكام الدينية المتعلقة بهذه الظاهرة، وما إذا كانت تمنع على المرأة تولي مثل هذه المناصب من ناحية، وهل الدولة اللبنانية عاجزة عن أن تفرض على الطوائف ما وقّعته من اتفاقيات دولية تمنع التمييز ضد المرأة؟