ناهض حتر *لم تفاجئني استقبالات دمشق ــ المفعمة بروح عروبية تنويرية تعددية غابت منذ الأربعينيات ــ للجنرال ميشال عون، ولم يفاجئني خطابه فيها، بما حمله من راديكالية مدنيّة واستراتيجية غابت عن خطابه الداخلي المغرق في تفاصيل السياسة اليومية. بل إنني كنتُ قد رأيت اللحظة الفريدة لخروج الجنرال من القمقم اللبناني إلى فضاء المشرق، ثلاث مرات:
ـ هنا، حين كتبت في 11/ 12/ 2007، مهنّئاً عون على تحرره من «رئاسة» 70 في المئة من المسيحيّين اللبنانيين، ليكون قادراً على القيام بدور رئاسة رمزية لنهوض المسيحية العربية. سمّيته مبكراً وأوّلاً: «جنرال المشرق»، وعدّدتُ الأسباب التي تجعل من رئاسته الرمزية تلك، ضرورة للمسيحيين ولمجتمعاتهم المشرقية.
ـ ثم رأيتُ اللحظة تلمع في عيني الجنرال حين زرته في الرابية، الربيع الفائت. وكانت هديتي له كوفية حمراء، ورسالتي إليه أن مسيحيّي المشرق ينتظرونه، فلا تحجبه التفاصيل اللبنانية عنهم طويلاً.
ـ ثم رأيتُ اللحظةَ في دروب دمشق القديمة، عشيّة زيارة الجنرال، وكانت جذلى بالموعد، وفخورة بالآتي من بيروت وقد كسبت الجولة رمزياً، أي تاريخياً. فحضور قلب لبنان إلى باب توما، أقوى ـ لسوريا ـ من جنودها الثلاثين ألفاً الذين كثيراً ما استُخدموا لحراسة مافيا أكلت قلب البلدين.
لي إذن أن أقول للجنرال ألا يلتفت لذلك السعار الصغير الصادر بحقه عن زعماء الحارات المهزومين في لبنان: لا يمكن المرء، مهما علا شأنه، أن يكون كبيراً في مربع العشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومتراً. لكن لبنان، بتنوّعه التكويني وتراثه الحداثيّ وحركيته المجتمعية والثقافية، يمكنه أن يكون مصنعاً للزعماء الرمزيين على مستوى المشرق. فلبنان أقوى من أن يتجاهل أحد تأثيره في تفاعلات التكوين المشرقي، لكنه أصغر من أن يمثّل خطراً تدخلياً على سواه.
وفي هذه المعادلة الحساسة، يمكن لبنان أن يؤدّي دوراً يتجاوز حدوده من دون أن يتجاوز على حدود الآخرين.
تكوين لبنان الطائفي هو صورة مصغرة عن تكوين المشرق، وامتداد له. لكن التقاليد اللبنانية استقرت على أن تتجاهل الطوائف الأساسية فيه ارتباطاتها المشرقية، رانيةً، أبداً، إلى ارتباطات خارجية وهمية تاريخياً وبنيوياً ـ على رغم ماديتها الصلبة سياسياً ـ فقد وجد السنّة اللبنانيون في مصر، ثم السعودية، أماً ذات رحم طائفي مطموس بقوموية ثوروية أو متأمركة ووهابية ـ لا فرق. ووجد الشيعة اللبنانيون في إيران، أماً هي أيضا ذات رحم طائفي اتسم، على العكس، بنزعة لاقومية كثيراً ما جرى توظيفها ضد الدولة العربية المنافسة في العراق. ووجد المسيحيون اللبنانيون في فرنسا، فالغرب بزعامة واشنطن، أماً طائفية وغريبة حملت بعضهم إلى الانسلاخ عن ذاته كلياً، بل وقادت بعضهم إلى أحضان إسرائيل، ونشرت في صفوف بعضهم وهْمَ استقواء أفلت غرائز العصبية الانتحارية.
الحل الجذري للتمزّق اللبناني لن يكون سوى رؤية الذات في إطار المشرق، حيث في ذلك الإطار الجماعيّ لا توجد أغلبيات طائفية مطلقة، وحيث تأخذ كل طائفة وزناً لا يمكن تجاهله، يمنح كلاً منها الثقة الكافية بالنفس لتجاوز نفسها كـ«طائفة»، وتنتهي مخاوف «الأقليات» وتفوّق «الأكثريات». فالأقليات والأكثريات موجودة، فقط، في إطار انعزالية الأقطار المشرقية بعضها عن بعضها الآخر، وتطلعاتها إلى خارج المشرق. لا يزيد سنّة المشرق عن شيعته، ولا يمثّل مسلموه أغلبية كاسحة بالنسبة إلى مسيحييه، عدداً وحضوراً ودوراً. حتى الدروز اللبنانيون سيكونون شيئاً ما في المشرق حين يكون جدارهم في جبل العرب.
على هذه الخلفية، تغدو القومية العلمانية للقوميين العرب ساذجة من وجهة نظر الحداثة ذاتها. فهي عملت وتعمل كأداة أيديولوجية بلهاء لتمزيق المشرق لحساب قومية عربية تعبر عن نزعة هيمنة طائفية (سنية) يتماهى فيها ما هو مصري ـ أو لاحقاً سعودي ـ مع ما هو عربي ويلخّصه، ويقذف بالطوائف الأخرى في المشرق إلى خارج الخط العام كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
هكذا، جرى استبعاد الشيعة من دائرة العصبية القومية، فانشقت بذلك الدولة العراقية الحديثة. وهي لا تزال، ويبدو أنها ستظل في المدى المنظور، تعاني آثار هذا الانشقاق. وهكذا ظهرت مشكلة الوجود المسيحي في لبنان كـ«أقلية» أفقدتها خسارة السلطة (الامتيازات بالنسبة إلى النخب والأمان بالنسبة إلى الجمهور) العقلانية، ودفعت بها إلى طريق انتحاري. وهكذا نشأت تقاليد الاستبداد في العراق وسوريا، من ديناميات الانشقاقات المذهبية، والمخاوف المتبادلة، والتحشيد المشحون الحادث «تحت مستوى الإدراك»، في صراع نفسي جماعي مستمرّ ومدمّر.
في العقد الأخير، نشأت ظروف تسمح لقيام لبنان بدور استراتيجي في المشرق، لإعادة لحمته التكوينية، والتأسيس لعلمانية فعالة لا لفظية تقوم على التجاوز السياسي والثقافي للطائفية من دون قمعها ـ وبالتالي، إعادة إنتاجها.
فقد ترشّح السنّة اللبنانيون للقيام بدور نشر أنموذج إسلام حداثيّ وديموقراطي في المشرق، نكصوا عنه رغم الشعارات البراقة إلى سعودة متأمركة سياسية وثقافية، انتهت بقسم منهم إلى تكوين حاضنة للجماعات السلفية الإرهابية. وكأن المشرق يحتاج إلى هذه الإضافة البربرية التي تنبجس من جسده المريض، وتغرقه في الوحول والدم والتخلف.
لم يستطع «تيار المستقبل» الذي تسلم السلطة في بيروت أن يكون مستقبلياً، ولم يقدم أُنموذجاً في الحداثة أو الديموقراطية أو الحاكمية الرشيدة أو نزاهة الإدارة. وتحوّل أداة أميركية وسعودية. وانتكس من ميليشيا الجامعيين إلى ميليشيا الشركات الأمنية، ومن مجموعات رجال الأعمال المبادرين إلى مجموعات البزنس السياسي، ومن الإسلام الحضاري إلى الإسلام الوهابي.
وترشح الشيعة اللبنانيون، بعد احتلال العراق، لدور قيادي على مستوى المنطقة، يقوم على التواصل الفعال مع الشيعة العراقيين لتحديد البوصلة نحو المصالحة الداخلية والمقاومة. وعلى رغم إنجازات حزب الله في القتال ضد إسرائيل، وشعبيته الآتية من هذه الإنجازات بالذات، فقد فشل في تعريب صورته، وظل محشوراً في الزاوية الإيرانية في ما يتصل بالقضية المركزية في المشرق الآن، وهي القضية العراقية التي تجاهلها حزب الله طويلاً، متناسياً أنه، بالتشكيك في المقاومة العراقية ـ لأنها ذات بعد طائفي سني - إنما يشكّك في نفسه.
لقد تهلّل تلفزيون المنار لإعدام الرئيس صدام حسين، تماماً مثل الأحزاب الشيعية المذهبية، سواء المتأمركة أو الشعبوية، متجاهلاً البعد الرمزي لذلك التهليل الذي جرح سنّة المشرق، قبل أن يُصاب سنّة بيروت في 7 أيار بمشاعر الخوف من سلاح مقاومة مصرّة على طائفيتها، ولم تسعَ، إلا متأخرة جداً، إلى تصحيح موقفها من القضية العراقية، بعدما سبق السيف... ومن موقع الحليف، وعلى وهج بطولات حزب الله في التصدي للعدوان الإسرائيلي صيف 2006، خصّصنا، الصديق عبد الأمير الركابي وأنا، كتاباً كاملاً أملاً في أن «تقرع المقاومة اللبنانية أبواب التاريخ». ولا يكون ذلك إلا في العراق، وبمداخلة جريئة دينامية لا التباس فيها للتحالف مع المقاومة العراقية، وردم الهوة المذهبية التي أغرقت، لاحقاً، العراق بالدم وأضعفته في مواجهة المحتلين. كانت الدعوة مفتوحة، ولا تزال (لكنها أصعب)، للسيد حسن نصر الله، لكي يكون «مرجعية» عراقية على فقه المقاومة، وهو وحده الفقه اللاطائفي. وقد ظهر جلياً، بعد 7 ايار 2008، أن مأزق حزب الله في بيروت لن يُحَلّ إلا في فضاء العراق، بمداخلة مستقلة تضع شيعة لبنان في قلب التكوين المشرقيّ، وتفكك أسس التحشيد المذهبي، لبنانياً وعراقياً، وتنأى بالسنّة المشرقيين عن المؤثرات الوهابية لصحراء النفط والتعصّب والإرهاب.
وحده الجنرال عون استطاع أن يلتقط اللحظة والدور، مدركاً أن المأزق التاريخي للمسيحية اللبنانية لا يُحَلّ إلا في فضاء دمشق، وفي سياق إعادة تأسيس المسيحية العربية المشرقية. وهو تأسيس لا طائفي، بل ضد ــ طائفي يُخرج مسيحيي المشرق من سيكولوجية الأقليات، ويعيد تأكيد حضورهم في عروبة تعددية حداثية تساعد المشرق على اكتشاف ذاته. هل كان عون ومضيفوه على إدراك كامل بدلالات اللحظة وإشراقاتها؟ ربما ليس على مستوى الوعي الاستراتيجي المخطط له، ولكن اللحظة فجّرت رموزها في دمشق القديمة، وأشهد أنني رأيتها تنبجس من رحم الأرض، وأحسب أن ضياءها شعّ في المشرق كله، انتظاراً لولادة آتية.
* كاتب أردني