خليل صويلح
يَكشف طراز المبنى الذي اختارته حنان قصاب حسن ليكون مقرّاً لاحتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008»، نمط تفكير «الأمينة العامة للاحتفالية». فالمبنى مزيج من عراقة العمارة الدمشقية التقليدية والحداثة الأوروبية. لعلّ هذا الخيار هو مَا وجّه بوصلة الاحتفالية، طوال هذا العام. هكذا، تجاور صوت فيروز الذي افتُتحت به نشاطات العاصمة، مع إيقاعات أكرم خان ومسرح بيتر بروك وجاز زياد الرحباني وجنون «كارمن» كارلوس ساورا وأنطونيو غاديس... إلى آخر القائمة التي حرّكت الهواء الراكد في الحياة الثقافيّة السورية.
هذه الأكاديمية السورية التي درست سيميولوجيا المسرح في جامعة باريس الثالثة، أوائل الثمانينيات، اتُّهمت فور تكليفها إدارة الاحتفالية بأنّها فرنكوفونية، لذلك بدأنا معها من هذه «التهمة»: «الفرنكوفونية ليست تهمة، إلا أنّني مشبعة بالثقافة العربية، فقد نشأت في بيت يقدّس التراث العربي. وحين اتّجهت لدراسة الأدب الفرنسي في جامعة دمشق كان ذلك بقصد التعرّف والانتفاح على الحضارة، وأعادتني تلك الثقافة أكثر إلى نفسي وهويّتي».
الهجوم الإعلامي الذي تعرّضت له، سرعان ما خفت بعد انطلاق الاحتفالية. رأى الجميع كيف أن ثقافة بعيدة عن الشعارات والخطابة، تؤكد حضورها على الساحة السوريّة، في سياق السعي إلى ترسيخ تقاليد ومراجع وممارسات تتجاوز المناسبة العابرة، وذلك بالتوجه إلى شرائح متعددة من دون التنازل عن مستوى الفكرة.
الشعار الذي أطلقته مطلع العام «دمشق في قلب العالم»، صار حقيقةً ملموسة. فعدا زخم الفعاليات العربية والعالمية، التفتت العاصمة إلى البنية التحتية للثقافة السورية، من خلال إطلاق مكتبة للطفل وأرشفة التشكيل السوري إلكترونياً، وترميم مكان مهجور كان معملاً قديماً، كي يكون فضاءً ثقافياً دائماً. وجرى إحياء الأمكنة البديلة مثل الملاجئ ومحطة القطار والحدائق العامة: «عملتُ على تقديم صورة مستقبلية لِما يمكن أن يكون عليه منطق العمل الثقافي في ضوء المتغيّرات المحلّية والعالمية» تقول حنان قصاب حسن. وتشرح الفكرة «كان علينا الانتقال من مرحلة الشكل القديم للثقافة بمعناها السائد رسمياً إلى منطق جديد ومغاير، وذلك عن طريق ربط الثقافة بالتنمية، وتخليصها من صيغة الإرشاد والوعظ، لوضع سوريا على الخريطة العالمية».
أما الانتقادات التي وُجِّهت إليها بتغليب الثقافة البصرية على بقية الأجناس الإبداعية الأخرى، فترفضها بحركة من يدها. تذكر أن الاحتفالية كرّست تقاليد شهرية للقراءات الأدبية، وأسّست نادي الذاكرة في مقهى شعبي استضاف أدباء ومفكّرين وفنانين لاستعادة ذكرياتهم عن مدينة دمشق، إضافةً إلى إقامة ملتقى للرواية العربية، وآخر للشعر العربي المعاصر، وندوات فكرية عن المدينة والثقافة، ومسابقة للكتابة الجديدة في الشعر والقصة والرواية، وتوثيق المسرح السوري، واكتشاف المدينة القديمة خلال تظاهرة «شامنا فرجة».
في مكتبها في حي العفيف، تواصل حنان قصاب حسن العمل ليل نهار، بعدما نسيت يوم الإجازة الأسبوعية وساعات التعب والإرهاق والقلق. وإذا بالمكان يتحوّل إلى خلية نحل بصحبة مجموعة من الشباب الجدد الذين اختارتهم بعناية، معظمهم من متخرّجي المعهد العالي للفنون المسرحية الذي تشرف على إدارته منذ سنوات: «أؤمن بالعمل الجماعي وروح الفريق وطاقات الشباب... وكان تكليفي إدارة الاحتفالية، فرصة العمر في إمكان العمل على مشروع ثقافي وتحقيقه، واكتساب خبرة إضافية في الإدارة والقوانين، بصرف النظر عن المشاحنات العابرة، فالمهم المتعة في العمل».
قريباً تسدل الستارة، وتجد الأمينة العامة لـ“عاصمة الثقافة العربية” بعض الراحة. تحلم حنان قصاب حسن بأن تتفرّغ للكتابة، رغم عشقها التدريس والعمل الأكاديمي. تجد متعتها الشخصية في كتابة نصوص في التحليل السيميولوجي لمظاهر الحياة اليومية بكل أطيافها، وهو على أي حال اختصاصها الأساسي خلال دراستها العالية في باريس.
تتذكّر تلك المرحلة بشيء من الحنين: «كانت باريس أهم تحوّل في حياتي. كنت خجولة ومنطوية، لكنّ مدينة الأنوار أخرجتني من بئر العزلة، ومنحتني ثقة كبيرة بنفسي وانطلاقة جديدة». خمس سنوات في باريس راكمت خلالها مخزوناً معرفياً هو حصيلة عمل دؤوب وتفاعل ثقافي خلّاق: «كنت أهرع إلى محاضرة لرولان بارت، وأخرى لامبرتو ايكو، وثالثة لجوليا كريستيفا. كانت باريس حينها ورشة عمل إبداعي لا بد من أن تترك بصمتها على أي شخص يسعى إلى المعرفة». فور عودتها إلى دمشق، منتصف الثمانينيات، انخرطت في التدريس الأكاديمي، كما أسهمت في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية، ووضع مناهجه بمشاركة ورشة من المبدعين العرب: فواز الساجر، سعدالله ونوس، صلحي الوادي، محمد إدريس، جواد الأسدي، نائلة الأطرش، ماري الياس. عن تلك المرحلة تقول اليوم: «كانت مرحلة نهوض ثقافي حقيقي في ظل مناخ صحّي جوهره العمل الجماعي والمتعة».
تولي حنان اهتماماً خاصاً بالأماكن البديلة التي تفتح الفرجة على مختلف شرائح الجمهور... وهذا الشغف قادها مطلع العام إلى معمل معلّبات مغلق منذ أيام الوحدة السورية ــــ المصرية، لكنّ جهات رسمية كثيرة أجهضت المشروع، فوجدت بديلاً آخر هو معمل خياطة للجيش، كان مغلقاً، وبعدما جرى ترميمه سيكون جاهزاً لاستقبال أنشطة ثقافية نوعية. لكنّ هذا الشغف ليس جديداً عليها. منذ سنوات اكتشفت معصرة زيتون مهجورة في محطة القدم عند أطراف دمشق، فقالت لنفسها «هنا ينبغي أن نمسرح بيكيت». هكذا أعادت الروح إلى نص بيكيت «هذه المرة» ثم عاودت تجربة الإخراج مع نص خوسيه ساراماغو: «حكاية الجزيرة المجهولة».
لكن هل تخلّت حنان قصاب حسن عن فكرة الإخراج للمسرح؟ «المسألة بالنسبة إليّ لا تتجاوز الشغف الشخصي بنص ما، ورغبة دفينة بتحقيقه. يستهويني بيكيت على الدوام، ولكن إذا فكرت في أن أخرج عملاً آخر، فسأختار نصاً قديماً من القرن السابع عشر لـ«كورناي» بعنوان «الوهم المسرحي».
فضولها للمعرفة وثقافتها المنفتحة وإيمانها بتجاور الثقافات، كل هذه الصفات مضافة إلى إنجازاتها، تجعل من حنان قصاب حسن، الشخصية الثقافية للعام. لقد حرثت أرضاً مهجورة وحوّلتها إلى مشتل ثقافي لن يبور بسهولة. ولعلّ دمشق ستفتقد الصورة التي ظهرت عليها هذا العام، إلا إذا استمرت هذه الورشة تحت اسم وشكل قانوني آخر. تقول حنان: «أنا بحاجة إلى الراحة، لكن من يدري؟ سأفكر في الأمر ربّما».
ابنة المحامي الراحل نجاة قصاب حسن، وأمينة الجراح إحدى النساء الشيوعيّات الأُوَل في سوريا، لم ترتدِ القفازات يوماً خلال العمل، كانت دائماً تنزل إلى المعترك الميداني. تزوجت بدوياً من عشائر الجولان، فعاشت بين البدو، وتعرفت إلى ثقافتهم عن كثب، واشتغلت فترة على توثيق الحياة البدوية. وهي تختصر شخصيّتها بهذه الكلمات: «لقد تربيت في عائلة لا مكان في قاموسها لـ«ياء» الملكية».


5 تواريخ

1952
الولادة في دمشق

1983
التخرّج من قسم الدراسات المسرحية في جامعة باريس الثالثة، بأطروحة عن أعمال جان جينيه

1997
أصدرت مع ماري إلياس «المعجم المسرحي: مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض» (مكتبة لبنان ـــ ناشرون) 2006

2006
عميدة معهد الفنون المسرحية في دمشق

2008
الأمينة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية ــــ 2008