بدر الإبراهيم*عندما قال الرئيس السادات إنّ 99% من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة، لم يكن يتحدث عن واقع لا مفر من التعامل معه، فمهما بلغ حجم أي دولة ونفوذها السياسي، لا يمكنها أن تملك هذه النسبة من أوراق اللعبة. كان السادات يتحدث عن قرار بتسليم أوراقه كلها إلى الولايات المتحدة لتتمكن من تملك هذه النسبة، قرار نُفِّذ في كامب ديفيد لينهي دور مصر في الصراع العربي الإسرائيلي ويحولها إلى تابعٍ يأتمر بأمر السيد الأميركي.
انتهى مع كامب ديفيد عصرٌ كانت مصر تؤدي فيه دوراً مؤثراً على الصعيدين العربي والدولي. خسرت مصر علاقاتها الواسعة مع أطراف دولية مؤثرة كالاتحاد السوفياتي ودورها مع دول عدم الانحياز، وغابت عربياً عن دورها القيادي الذي كانت تزهو به على مر العصور، وكل هذا تم بحجة التفرّغ للتنمية وتحقيق الرفاهية في الداخل.
ولم تكن النتيجة في الداخل أقل سوءاً من النتيجة الخارجية. فكان «الانفتاح» على الفساد والنهب المنظم وزيادة معدلات الفقر وتدهور الاقتصاد، وكان قانون الطوارئ، بما هو تكريس للقمع والاستبداد، وكان تراجع ثقافي وفني وفوضى اجتاحت البلاد وانحطاط على جميع المستويات. عادت مصر خمسين عاماً إلى الوراء، فالعائلة تحكم وتستأثر و«الباشوات» في الحزب الوطني يتمرغون في الفساد ويحتكرون الثروة وغالبية الشعب تعاني الفقر والعوز، وما بقي من أثر الجمهورية والثورة يتبدد مع احتمالات التوريث التي تلوح في الأفق.
لم تكسب مصر من الغياب عن القضايا العربية وانحسار دورها العربي والدولي غير المزيد من الخراب. لكن النظام المصري لم يكتفِ بالغياب، بل نفّذ في السنوات الأخيرة الانقلاب العلني والكامل على دور مصر التاريخي، وحوّل هذا الدور إلى ما يشبه الدور الأردني القديم المتواطئ مع إسرائيل ضد من يعاديها من العرب. تبين هذا في مواقف النظام المصري العلنية من العدوان المستمر على الفلسطينيين ومن حرب تموز 2006 والموقف المدين للمقاومة في لبنان.
كان الحديث في السنوات الأخيرة عن «وساطة» تؤديها مصر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وفي الواقع لم يكن النظام المصري يؤدي دور الوسيط، بل دور «الرسول الإسرائيلي» الذي ينقل الشروط الإسرائيلية للفلسطينيين مرفقة بالتهديد والوعيد بمزيد من القتل والتدمير، وينهي النظام المصري الرسالة بالقول: اللهم بلغت... اللهم اشهد. وفي هذا تتجلى حكمة القيادة المصرية وبعد نظرها! لقد كان هذا الدور بالتحديد أكبر إهانة لمصر وشعبها وتاريخها، وتواصلت هذه الإهانة بحصارٍ يفرضه النظام المصري على أهل غزة.
ليس حصار غزة من الجانب المصري سوى تتمة لعملية بدأت منذ فوز حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية.
وقتها قررت الولايات المتحدة وإسرائيل ضرب حماس وإسقاطها بكل طريقة ممكنة ومعاقبة الفلسطينيين على خيارهم. وتم التنفيذ بشراكة مصرية ودعم صريح لسلطة محمود عباس لتقويتها على حماس وفصائل المقاومة وضرب كل محاولة للتفاهم الفلسطيني من خلال إسقاط اتفاق مكة. وبعد سيطرة حماس على قطاع غزة، ازداد الخوف الإسرائيلي والشعور بالتهديد فزاد الإصرار على القضاء على حماس.
ولم يكن النظام المصري بمنأى عن الخوف والشعور بالتهديد. فهناك حركة إسلامية مقاوِمة لها شعبيتها في مصر والعالم العربي تسيطر على منطقة مجاورة ولصيقة، وهي تكشف بصمودها عجز هذا النظام وفشله أمام شعبه والعالم، وهي أيضاً تعزز نفوذ الإخوان المسلمين وشعبيتهم في الداخل المصري. اختار النظام المصري التآمر مع الأميركيين والإسرائيليين على غزة وأهلها ومعاقبتهم وإحداث كارثة إنسانية لتحقيق أهدافهم في إخضاع حماس.
كان من الواضح أن الحصار وإغلاق معبر رفح ورقة ضغط يستخدمها النظام المصري لإجبار حماس على التنازل في حوار ترعاه القاهرة، وكان من الطبيعي أن ترفض حماس هذا الابتزاز والحوار الذي ينظمه نظام منحاز لطرف ضد طرف في المعادلة الفلسطينية، وكان من الطبيعي أيضاً أن تقوم المظاهرات والاعتصامات في بلدان عربية وإسلامية عديدة تنديداً بالدور المصري العلني الذي فاق كل الحدود في حصار غزة وتجويع
أهلها.
انتفض مثقّفو السلطة في مصر (الذين يروّجون لديموقراطية النظام البوليسي) على التظاهرات الشعبية هذه، وانبروا للدفاع عن دور النظام المصري بركاكة معتادة، رافضين الإساءة إلى مصر. والواقع أن لا أحد أساء إلى مصر غير نظامها، وأن شعب مصر يرفض في غالبيته هذا الدور المهين لتاريخ مصر وأهلها الذين يقفون بعد ثلاثين سنة من كامب ديفيد في اتجاه مضاد للتطبيع مع إسرائيل والتعاون معها ضدّ حركات المقاومة.
لقد سبب عجز النظام الرسمي العربي وتخلّيه عن أداء بواجباته بروز منظمات شعبية تملأ الفراغ وتؤدي الواجب عوضاً عنه وتحقق نجاحات متعددة، واكتسبت هذه المنظمات الشعبية المقاوِمة تعاطف جماهير رأت فيها أملاً في الخروج من حالة الضعف والهوان.
هذا ما يدفع نظاماً كالنظام المصري إلى تغطية عجزه وفشله بمحاولة إنهاء هذه الحركات المقاومة والتسريع بتسوية شبيهة بكامب ديفيد تعمم حالة العجز عربياً وتسلم أوراق اللعبة وما بقي من الحقوق العربية إلى الولايات المتحدة، وتالياً إلى إسرائيل، غير أن رهانات هذا النظام الخاطئة تجعله يراكم الفشل ولا يحقق إلا المزيد من الخسائر.
يبدو الحصار الذي فرضه النظام المصري على غزة نتيجة حتمية لحصار يفرضه هذا النظام على مصر نفسها وعلى شعبها ودورها التاريخي، ويمكن ببساطة توقع انتهاء الحصار الفرعي بانتهاء الحصار الأصلي.
* كاتب سعودي