لم يقل أحد في فيلم «لعبة الجواسيس» إن الأحداث تدور في بيروت. لكن، كان ممكناً للمتابع أن يفهم أن العاصمة اللبنانية هي وجهة عناصر «الأف بي آي» المكلفين اغتيال إحدى الشخصيات. فصوّّر الرئيس السابق أمين الجميّل تملأ الجدران، وثمة كنيسة في البعيد، تشير إلى أن المنطقة هي «بيروت الشرقية» آنذاك. المفارقة أن مسلّحي تلك المنطقة اليمينيين كانوا يرتدون كوفيات فلسطينية: ثمة التباس!
أحمد محسن
يسهل للمتجّول في شوارع بيروت وضواحيها الجنوبية والشمالية، ملاحظة العدد الكبير من الكوفيّات الفلسطينية «الملّونة» الملتفة، بما شاء للناظر من ألوان، حتى «الفوسفوري» منها، حول رقاب الشباب. لكن هذه الكوفية الملونة، لم تمر بسلام. هكذا، لم يتوانَ عدد كبير من اللبنانيين والعرب عن إطلاق بعض المواقف والحملات الرافضة لتحوّل الكوفية الفلسطينية من رمز ثوري إلى موضة. معظم هذه الحملات اقتصر على شبكة الإنترنت و«الفايس بوك» تحديداً، لكن التجاوب معها كان محدوداً. فالكوفية التقليدية نفسها باتت قاب قوسين أو أدنى من التحّول إلى «كادجيت» يعتمده «اليساريون اللبنانيون في المرحلة الأولى التي تواكب انضمامهم إلى اليسار»، كما يقول مازن شحرور أحد مناصري الحزب الشيوعي اللبناني.
وفي تعريف الموضة وفقاً لقاموس «ويبستر»، يبرز عنصر أساسي مفتقد في معنى انتشار الكوفية في منطقة مثل... الأشرفية كما هو حاصل اليوم. فحسب القاموس «الموضة هي قبول أشخاص شيئاً في وقت معين من أجل إحداث تأثير». هذا العنصر يختفي في حال الكوفية الملونة في الأشرفية. فتاريخياً، أهالي عين الرمانة والأشرفية خصوصاً، في صراع قديم مع الوجود الفلسطيني في لبنان من أساسه، ما يعني رفضهم لهذه الظاهرة في المبدأ، لما تمثّله من رمز ثبتته في أذهانهم صورة المقاتل الفلسطيني طوال حقبة الحرب الأهلية وما قبل. إلا أن مبيعات الكوفية الملوّنة «هنا في الشرقية» تثبت عكس ذلك، كما تبين من الحديث إلى مارون بشارة الذي يملك كشكاً صغيراً لبيع الملابس في فرن الشبّاك. «يشتريها المسيحيون المتعصّبون»، يقول مارون في رغبة منه لزيادة دهشتنا «ما أنا بعرفهم»، مضيفاً أنهم هم أنفسهم يشترون طاقيات «صليب القوات المشطوب».
يرفض آخرون اعتبار ارتداء الكوفية في الأشرفية ظاهرة من أساسه. فبرأيهم الأشخاص الذين يرتدون هذه الكوفية هم مجرد مراهقين، يبحثون عن أزياء جديدة.
مارسيل صقر، وهي إحدى هؤلاء، تؤكد أنها من الداعمين للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، رغم ما تصفه بـ«الصورة النمطية» المعاكسة، المترسخة في ذاكرة اللبنانيين عن سكان المناطق «التي للعونيين والقوات» نفوذ فيها. وترى مارسيل أن دعم قضية الفلسطينيين لا تكون بارتداء الكوفية، الحقيقية منها أو المزيّفة.
وتروي قصة طريفة، حيث أوقفها عجوز في منطقة دير الأحمر البقاعية كان يبيع، خلال إحدى الرحلات، كوفيات ملوّنة. وقد كان الرجل مستميتاً للبيع لدرجة أنه راح يصرخ محاولاً إقناعهم بأن الكوفية الملوّنة لبنانية تماماً، ما دفع أحد أصدقائها لشراء واحدة، و«الرفاق» بالمقابل لمطالبته بخلعها «لأنك تشبه الفلسطينيين وأنت ترتديها».
جوانا نصر، الطالبة العشرينية في كلية الفنون الجميلة ـــ الفرع الثاني، لا تعير الأمر أي أهمية. تبدأ من حيث انتهى صديق مارسيل، فتجيب «إيه وإن كنت أشبه الفلسطينيين؟ شو يعني ؟». تعلن جوانا أنها مرتاحة لأن الكوفية البنفسجية تلائم ثيابها. كما أنها جيدة على أبواب الشتاء ومتوافرة بكل الألوان والزركشات. والكوفية هنا تصلح لأن تصنف في خانة الموضة بالفعل. تبدو جوانا مفعمة بالحيوية، توضب «كوفّيتها» وتردها إلى الخلف بين الحين والآخر، لكنها تقرّ «لا أعرف شيئاً عن الفلسطينيين، لكن أبي لا يحبهم».
في الشطر الآخر من العاصمة، تختلف الأمور. فانتشار الكوفيّات الملونة لا يبدو «عدائياً» لأهل الكوفية الأصلية. فللمنطقة تاريخ إيجابي مع هذا الرمز، ما يتيح لها التفنن في ارتدائه دون أن تخاطر باتهامها باتباع «الهوى الإسرائيلي في تحويل الكوفية إلى مجرد موضة» كما يدّعي البعض. أما في الضاحية. فللكوفيات حديث آخر. فإن كان العداء بين أهالي «الشرقية» والفلسطينيين هو الطاغي على الذاكرة العامة، إلا أن عداءً آخر لا يبدو ظاهراً للعيان إلا أنه موجود ومستمر منذ معارك أمل الشيعية مع المخيمات. وربما كانت استعاضة هؤلاء عن الكوفية الفلسطينية التي لبسوها في ما مضى، بأخرى سوداء مخططة بالأبيض، تعبيراً عن استمرار النفور المتبادل.
وبغض النظر عن هذه الحالة، فإن موسى نور الدين، وهو طالب في العلوم الدينية، يقول إن لبسه هذه الكوفية، يرمز إلى «الحداد الدائم على الحسين وأئمة الشيعة».
أما حسن حيدر، المقرّب من «حزب الله»، فيقول إن الكوفية الإيرانية هي تلك التي يلبسها السيد حسن نصر الله فقط، ومرشد الثورة في إيران، آية الله الخامنئي. أما الكوفية الفلسطينية الأصلية؟ فيقول إنه يحبها ويحترمها لكنه يفضّل الإيرانية.
في المحصّلة، ربما يُعدّ انتشار الكوفية الملونة في الأشرفية أو في العالم، إذا ابتعدنا عن نظرية المؤامرة، مجرد عمل تجاري بحت، والأرجح مما نرى على رقاب الصبايا والشباب في كل مكان، أنه كان مربحاً بالفعل. لكن اختفاء الكوفية الأصلية، لمصلحة الأزياء تارة، ولمصلحة كوفية ملتزمة دينياً وأيديولوجياً كما في الضاحية تارة أخرى، يؤدي في نهاية المطاف إلى محو رمز من رموز فلسطين نفسها من الذاكرة. عندها يصبح «طبيعياً» أن تكون الكوفية الفلسطينية المموّهة بألوانها موضة محايدة سياسياً في الأشرفية.