يتجه القضاء اللبناني إلى فراغ مخيف»، بحسب ما عبّر أكثر من قاضٍ، أمس. الأمر ليس فقط بسبب رمزية استقالة شاغل أرفع منصب قضائي عدلي في البلاد، بل بسبب لامبالاة السلطة السياسية تجاه النزف الحاصل في القضاء
حسن علّيق
يتجه القضاء اللبناني إلى فراغ غير مسبوق. رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي أنطوان خير تقدّم بطلب لإنهاء خدماته وقبوله في منصب الشرف (أي استقال). وظهر أمس، وافق مجلس القضاء الأعلى على طلب، مانحاً خير منصب الشرف برتبة رئيس أول لمحكمة التمييز. ولا تزال الاستقالة بحاجة لصدور مرسوم كي تصبح سارية، وهو «أمر سيمرّ بسهولة، لأن المحاصصة لا تشمل الاستقالات»، بحسب ما قال أحد القضاة ممازحاً. استقالة خير ليست الحدث بحد ذاته، رغم رمزيتها. فهو كان سيحال حكماً إلى التقاعد بعد 5 أسابيع. لكن هذه الخطوة، وفي ظل لامبالاة تبديها السلطة السياسية تجاه السلطة القضائية، تشير إلى دخول القضاء حلقة مفرغة يصعب الخروج منها إن لم تأخذ الحكومة مبادرة عاجلة، في ظل المعطيات الآتية:
أولاً، خروج خير يعني عدم انعقاد الهيئة العامة لمحكمة التمييز والمخوّلة انتخاب عضوين في مجلس القضاء الأعلى. وإضافة إلى ذلك، لن ينعقد المجلس العدلي لمحاكمة المتهمين بالجرائم المحالة إليه (عين علق، قتل الزيادين والحقوق الشخصية في اشتباكات الضنية وغيرها).
ثانياً، أعضاء مجلس القضاء الأعلى الستة المداومون حالياً، (عقدت جلسة أمس بحضور الرئيس ميشال طرزي لأول مرة بعد صدور مرسوم تعيينه الأسبوع الفائت)، يرفضون البحث في التشكيلات القضائية، بحسب ما نقل عنهم القاضي أنطوان خير أمس، إلا بحضور أعضاء المجلس الحكميين، أي رئيس المجلس والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي. المنصب الأخير شاغر منذ إحالة القاضي محمد علي عويضة إلى التقاعد في آب الفائت، ومشروع مرسوم تعيين أعضاء الهيئة ورئيسها لم يدرَج بعد على جدول أعمال مجلس الوزراء، رغم أن وزير العدل أحاله قبل نحو شهر. وقريباً، سيصبح المطلب مزدوجاً: تعيين رئيس هيئة التفتيش ورئيس مجلس القضاء. ويشير بعض العارفين إلى أن إصدار مرسوم هيئة التفتيش وُضِع في سلة واحدة مع مرسوم تعيين رئيس ديوان المحاسبة، الذي شغر منصبه منذ كانون الثاني 2006، إثر تقاعد القاضي رشيد حطيط، وعدد من رؤساء الغرف في الديوان. ويسأل هؤلاء: رئاسة هيئة التفتيش شاغرة منذ أكثر من 3 أشهر بسبب خلافات المحاصصة، فكيف الحال مع رئاسة مجلس القضاء الأعلى؟
ثالثاً، يزداد الشغور في المراكز القضائية يوماً بعد يوم، بسبب بلوغ عدد من القضاة السنّ القانونية، أو بسبب استقالة البعض الآخر. وحتى اليوم، توجد 3 غرف في محكمة التمييز من دون رئيس، و3 نواب عامين أحيلوا على التقاعد، ومن المنتظر أن يبلغ النائب العام المالي القاضي خليل رحال سن التقاعد القانونية قبل نهاية العام الجاري، على أن يتبعه رئيس غرفة رابعة في محكمة التمييز.
وفي ظل هذا الوضع، خرج وزير العدل الأسبوع الماضي ليقول إن عدم إصدار التشكيلات القضائية لن يعطّل العمل القضائي، ما يشير إلى محاولة فرض تعايش مع الوضع العدلي القائم، والمتجه إلى مزيد من النزف.
القاضي أنطوان خير استقال إذاً، بسبب ترشّحه لعضوية المجلس الدستوري. كان قد دخل السلك القضائي عام 1977، مستشاراً في مجلس شورى الدولة، بعد نحو 12 عاماً من تدريس الحقوق في جامعة القديس يوسف، حيث لا يزال يدرّس حتى اليوم. وتنقل في عدد من المراكز القضائية، أبرزها رئيس غرفة في مجلس شورى الدولة وعضو في المجلس الدستوري، ثم رئيس لمحكمة التمييز ولمجلس القضاء الأعلى. وفضلاً عن ذلك، يرأس المنظمة الفرنكوفونية لمحاكم التمييز منذ عام 2007.
بعد ظهر أمس، قال القاضي أنطوان خير إنه سيتابع عمله حتى صدور مرسوم قبول إنهاء خدماته. وأثناء خروجه من مكتبه في العدلية أمس، كان محاطاً بزملاء صحافيين وهو يعدّد الشواغر في سلك العدالة، وقبل أن يقفل الباب قال: «عم تفضى العدلية».