ربيع بركات *مأساوي ومؤسف هو حادث استشهاد النقيب الشهيد سامر حنا. ولكأنّ مرارته لا تكفي لتميت القلب حتى يزيدك أسفاً ومرارةً ذلك الاصطياد في الماء العكر، ومحاولات بناء أمجاد انتخابية، وتوظيف وتصفية حسابات سياسية على حساب دم الشهيد. فها هم جماعة 14 آذار، (عن مقاعدهم الوثيرة وأغلبهم لم تطأ رجلاه روابي الجنوب ووديانه يوماً) يلمّحون إلى أن حادث إطلاق النار على مروحية عسكرية للجيش، الخطير بما لا يختلف عليه بواقعه وتبعاته، متعمّد، ذو صلة وارتباط برسائل أمنية قاسية توجّهها جهات معيّنة للردّ على الزيارات الدبلوماسية المتعددة هذا الأسبوع، وعلى زيارة وفد عسكري أميركي رفيع جاء للبحث في المساعدات للجيش اللبناني، ومن أجل ترجيح خيارات ما عن «هوية» القائد الجديد للجيش، وكذلك هوية قادة الأجهزة الأمنية الأخرى.
تنطلق هذه الفرضية من أساس مغلوط، يرى أن كلّ دعم للجيش (الذي يمثّل، باعتبار أصحابها، دعماً للدولة ومفهومها، كأن الدولة لا تقوم إلا على القوّة العسكرية!) هو حتماً يكون في مواجهة المقاومة وضدها (وهو ما يثير الشك حول «موضوعية» هذا «الدعم» وبراءته، أهو لقيام الدولة أم لغاية في نفس يعقوب؟). وبما أنّ ما بُني على باطل هو حكماً باطل، فللفرضية حجج أخرى تدحضها:
1ـــ الرسالة فجة جداً. وعلى فرض اعتبار أنها من شيم المقاومة، (افتراض بأصله سيئ النية، والإناء «الأربتعش آذاري» ينضح بما فيه)، وهو حكماً ليس كذلك (تاريخ قرابين حزب الله مع الجيش عند جسر المطار وطريق صيدا القديمة تثبت حتماً وحسماً ذلك)، الوسيلة فيها انتحار سياسي لحزب الله وغير منطقية.
وعلى فرض النية، بالإمكان إرسال رسائل هضمها أسهل بكثير، ثم إن في الأمر استخفافاً واستغباءً لوعي حزب الله السياسي، أو جهلاً فاضحاً أو استخفافاً لنفوذ المقاومة ولعمق العلاقة وتأصّلها بين الجيش والمقاومة، وإهانة للجيش اللبناني الذي يفكرون أنه بالإمكان رشوته وتغيير ثوابته الوطنية بهذه البساطة.
ثم إنّ بعث رسالة عبر وسيلة مماثلة هو هدية لفرق الزجل «الأربتعش آذارية» ومزاميرها الإعلامية، كلفتها باهظة على الصعيد السياسي الانتخابي الداخلي، تجعل منها ضرراً مطلقاً لا خير فيه.
2ـــ أصلاً المساعدات الأميركية مهما بلغت، هي محكومة ببقائها غير ذات معنى في الميزان الاستراتيجي. إنّ السبب البديهي لتسليح جيش ما ودعمه هو للدفاع عن الوطن ضد الأعداء، والعدو هنا هو نظريّاً إسرائيل، فهل يمكن أن تقدّم الإدارة الأميركية دعماً عسكرياً يغيّر من موازين القوى؟
هذا إذا كان السلاح موجهاً للخارج. أما في حالة توجهه للداخل، فيدرك الأميركيون أكثر بكثير من جماعة ثورة الأرز حجم قدرات حزب الله، ويدركون مدى التسليح الواجب تقديمه للجيش ونوعه ليوازي قدرات حزب الله العسكرية (على افتراض أنه موجّه ضد حزب الله).
3ـــ أسباب بنيوية تعدم خشية حزب الله من احتمال انقلاب الجيش على القيم الوطنية، تمنع أميركا أصلاً من تقديم دعم ذي معنى (أثقل من زيوت السيارات وقفازات الدراجات...)، ويدركها كلاهما، فيجب أن لا نكون عباقرة في السوسيولوجيا السياسية لندرك أن هذا الجيش هو مرآة لهذا المجتمع اللبناني المركّب، ووحدته بكل أسف هشّة مرتبطة عضوياً بتوافق المكوّنات الطائفية الكبرى لهذه الأمة المسخ. وفي حال حدوث أي فتنة كبرى بين الطوائف، لا سمح الله، فالجيش، وبكل مرارة، سيكون أولى الضحايا. أميركا وإسرائيل تدركان ذلك، وخشيتهما المشروعة على وقوع هذا الدعم المسلح «الفعّال» في الأيدي الخطأ، كما حدث يوماً في أفغانستان مع صواريخ «ستينغر»، يجعل من احتمال هذا الدعم مستحيلاً.
4ـــ إلا أن الأمر، ورغم فظاعته، هو حادث يمكن أن يقع في أي ميدان، وأن تقع فيه الجيوش الأشدّ احترافاً في العالم. يؤكد هذا الأمر عدد الحوادث وعدد ضحايا النيران الصديقة داخل الجيش الأميركي نفسه أو بينه بين الجيش البريطاني.
فمثلاً، وصل عدد الجنود الأميركيّين الذين قُتلوا في العراق بين 19 آذار 2004 بداية الحرب على العراق و29 نيسان 2004 حوالى 737 جندياً، من ضمنهم 534 قتلوا في عمليات استهدفتهم، و203 قتلوا بسبب «نيران صديقة أو حوادث متفرقة».
وتزخر صفحات الجرائد بالحوادث المماثلة بين حلفاء محترفين في ساحات القتال الحديثة، كما في أفغانستان بين الجيش البريطاني والجيش الدنمركي في 2007مثلاً. وتعدد صحيفة «تايمز» مثلاً في عدد 25/8/2007 المرات التي قتلت فيها النيران الصديقة جنوداً بريطانيين وآخرين من قوات التحالف، بل من الأميركيين أنفسهم ومن المدنيين أيضاً.
فقد قتلت تلك النيران ستة جنود بريطانيين سنة 1991، و26 شخصاً بينهم ضابطان بريطانيان سنة 1994، وقتلت 15 من الأكراد وأسقطت طائرة تورنادو سنة 2003، إلى غير ذلك من الحوادث.
لا حرمة لدم الشهيد، حقيقة مرّة عوّدتنا عليها في لبنان طبقة سياسية مستعدّة لامتهان كل شيء لكي تبقى في السلطة. المطلب الأساس أن يجري تحقيق قضائي جدّي لإظهار التفاصيل والملابسات كي تحدّد العدالة المسؤولين وتعاقبهم، ولاستخلاص العبر ليُتلافى أي خطأ مماثل من نيران صديقة في المستقبل.
* محام وباحث سياسي