إسكندر منصور *لا مبالغة بالقول إنّ كلمة الرئيس حسين الحسيني الأخيرة في مجلس النواب من أهم الكلمات، إن لم تكن الأهم التي نطق بها مسؤول لبناني، عايش الحياة السياسيّة اللبنانيّة على كل المستويات التي يسمح بها انتماؤه الطائفي، منذ اتفاق الطائف حتى اليوم.
عاصر الرئيس الحسيني وعايش الإمام موسى الصدر وتأسيس حركة «المحرومين» التي وضعت الطائفة الشيعية اللبنانيّة لأول مرة بشكل فاعل على مسرح السياسة اللبنانيّة، بعدما كان دورها مصادراً، ليس فقط من خلال النظام السياسي الذي أعطى الرئيس المسيحي سلطة «مطلقة»، بل أيضاً من خلال احتلال الطائفة السنيّة الدور الأساسي للمسلمين في لبنان.
فمثلاً، بعد مجيء فؤاد شهاب رئيساً للجمهوريّة على أثر «ثورة» 1958، أُلّفت أول حكومة رباعيّة برئاسة رشيد كرامي وعضويّة حسين العويني وريمون إده وبيار جميل، حيث كان التمثيل الإسلامي من خلال السنّة فقط.
دخل الرئيس الحسيني الندوة البرلمانيّة سنة 1972، ليصبح بعد ذلك رئيس حركة «أمل» لفترة قصيرة، بعدها رئيساً لمجلس النواب في ظروف تاريخيّة صعبة تخللها إنجاز اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهليّة اللبنانيّة؛ وانتخاب رئيسي جمهوريّة ـــ الرئيس معوّض والرئيس الهراوي ـــ خلال فترة زمنيّة قصيرة جداً.
كان الرئيس الحسيني أول ضحايا الانقلاب على الطائف الذي قادته سوريا بالتعاون مع فريق لبناني من كل الطوائف أعلن الولاء التام للدور السوري، يقابله حصر الملفات الاقتصاديّة في يد الرئيس رفيق الحريري، وملفات المقاومة وشؤونها في يد حزب الله؛ فتراجع الرئيس الحسيني إلى الصفوف الخلفيّة ليُفْسَح المجال لكل من الرئيس بري وحزب الله بلعب الدور الأساسي ضمن الطائفة الشيعيّة في كنف دولة الوصاية السورية.
جاءت كلمة الرئيس الحسيني لتضفي شرعيّة إضافيّة لما كان يتداوله البعض علناً والبعض الآخر همساً وسراً. أولاً: هناك انحراف عن التراث السياسي الشيعي اللبناني الذي حمل لواءه الإمام موسى الصدر. ليس من قبيل الصدفة أن يعود الإمام الصدر ليحتل حضوراً طال غيابه، حضوراً لا بجسده بل بظله وفكره والأهم: كلمة الرئيس الحسيني في مجلس النواب.
ثانياً: ما زال الطائف يمثّل مشروعاً ناقصاً بحاجة إلى قوانين تحدد الآليات الدستوريّة لعمل كل من رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس الوزراء؛ كما أنه بحاجة إلى تطبيق ما اتُّفق عليه من نظام انتخابي وتأليف هيئة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة، والعمل بمبدأ «لا شرعيّة لأي سلطة تناقض العيش المشترك».
وهكذا استطاع الرئيس الحسيني، عرّاب اتفاق الطائف غير المدعو إلى طاولة الحوار، من خلال كلمته / الاستقالة، وضع جدول أعمال الحوار، فأضحى المحاور الأكثر حضوراً على طاولة الحوار التي دعا إليها الرئيس ميشال سليمان في ظلّ غيابه.
الإمام الصدر والثوابت
1ـــ أراد الرئيس الحسيني، من خلال التركيز على فكر الإمام موسى الصدر ونهجه ورؤيته، أن يعيد التذكير بأهداف الحركة الأوليّة وتراثها وثوابتها، أكان في موقفها من النظام السياسي اللبناني وإصلاحه أو من مسألة الهويّة وعلاقة لبنان بمحيطه. استعان الرئيس الحسيني بورقة سياسيّة مفصّلة كان قد وضعها الإمام الصدر، حدَّد من خلالها رؤية إسلاميّة شيعيّة أكّدت أولاً: على كون لبنان «عربياً في محيطه وواقعه ومصيره»، مع ما تتطلبه الهويّة العربيّة من التزامات تجاه قضايا العرب، وخاصة القضيّة الفلسطينيّة.
ثانياً: أكدت الوثيقة على «إلغاء الطائفيّة السياسيّة في جميع مرافق الحياة العامة»، وجعل لبنان دائرة انتخابيّة واحدة (وهنا على ما ذكر الرئيس الحسيني أضاف الإمام الصدر وبخط يده «وتمهيداً لهذه الغاية، وإلى أن تشمل لبنان بأسره أحزاب وطنية يمكن اعتماد الدائرة الموسّعة، بحيث لا تقلّ عن المحافظات»).
ثالثاً: أكدت الوثيقة أن لبنان «جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة»، يحافظ على «الحريات العامة»، وخصوصاً «حريّة الرأي والمعتقد» و«فصل السلطات»؛ كما يلتزم بمبدأ «العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق والواجبات» ضمن «نظام اقتصادي حرّ مبرمج». ورأت الوثيقة أنّ هذه المبادئ «ليست عارضة أو طارئة، وليست مطلباً من مطالب فئة دون أخرى، بل هي منبثقة من جوهر وجود لبنان، ومن صميم كيانه، ومن رسالته التاريخية».
فظاهر الدعوة أنّ الرئيس الحسيني يقول بضرورة العودة إلى التراث الشيعي اللبناني والقراءة في النصّ الأصيل «المنبثق من جوهر وجود لبنان ومن صميم كيانه»، كما رآه وصاغه الإمام الصدر.
إن هذه الوثيقة ليست إلا تكملة لما كان قد بدأه الرئيس شهاب من خطوات إصلاحيّة غير مكتملة، وبهذا تمثّل جزءاً من التراث الإصلاحي اللبناني. أما باطن الدعوة فيقول إن حزب الله خرج عن النصّ وبدأ يؤسّس واقعاً جديداً ضمن الطائفة الشيعيّة، بعيداً عن التراث الشيعي اللبناني الأصيل، رابطاً مصير لبنان والشيعة بمشاريع إقليميّة دخيلة، ليست لبنانيّة أصيلة.
لكن بالمقابل، يصحّ القول إنّ حزب الله استمدّ من نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران دعماً فقهياً ومادياً ما كان لينجح لو لم يتكامل مع دور مقاوم مارسه بتفان وتضحية ونجاح قلّ نظيره؛ ومع دعم سوري فاعل مهّد له الطريق ليكون لاعباً مقاوماً وحيداً لا شريك له، بعدما أزاح من طريقه رجال المقاومة الوطنيّة عنوة واغتيالاً، فأضحت جماهير «المحرومين» درعه الواقي والأمين بعدما تراجع الحضور اليساري التاريخي ضمنها، وتربّع الحزب على عرش المقاومة دون منافس، فأخلص ونجح واستعاد الأرض والمساجين. وفي ذلك أصالة لا شك نابعة من تراث الشعب اللبناني المقاوم لكل احتلال.
2ـــ منذ أن أصبح لبنان بلداً مستقلاً، كان الميثاق الوطني الذي أُريد له أصلاً أن يكون جسراً للاستقلال والتوازن بين الطوائف والاستقرار باباً للتدخلات الخارجيّة، ومصدر خطر على لبنان ووحدته واستمراره كوطن لكل أبنائه.
كان هذا نتيجة لعاملين على ما جاء في الوثيقة. العامل الأول: الخلافات الداخليّة التي «تنفذ منهما المؤامرات على سلامة البلد واستقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه» والتي هي نتيجة القلق «على المصير عند البعض»، مما قاد إلى التشبث والعمل «للمحافظة على امتيازات فئوية»؛ والعامل الثاني «عامل الغبن» عند البعض الآخر الذي فتح أيضاً باب التدخلات الخارجيّة.
لا شكّ في أنّ أي انقسام داخلي، طائفياً كان أم مذهبياً، في ظلّ نظام سياسي هش، سيشرّع الأبواب أمام التدخل الخارجي، لأن نظاماً كهذا، قائماً على فرضيّة أن لبنان مجموعة طوائف تعاقدت في ما بينها لتكوّن وطناً تحت مظلّة ما سمي «الديموقراطيّة التوافقيّة»، ليس قادراً أن يحمي لبنان ويؤمنّ استمرار وحدته ووجوده. فـ«الديموقراطيّة التوافقيّة» بالملموس أعوام 1958 و1969 و1975 و1982، وخلال فترة الوصاية وسنة 2005، لم تمثّل مناعة قادرة على حماية لبنان من رياح الأزمات الإقليميّة والدوليّة.
هنا يصحّ القول إنّ اتفاق الطائف الذي يرى فيه الرئيس الحسيني الدواء من أجل وحدة داخليّة، يستطيع لبنان من خلالها مقاومة انعكاسات الأزمات الإقليميّة والدوليّة، لم يقم بما أوكل إليه، بل بالعكس أوجد أرضيّة خصبة للتدخلات الخارجيّة من القريب والبعيد والأبعد. وما عاناه لبنان في السنين الماضية خير دليل على ذلك.
آليّة الحكم وغياب الدولة
لا شك في أن اتفاق الطائف إنجاز كبير، من حيث أنه أوقف الحرب الأهليّة وفتح باب حلّ الخلافات السياسيّة والإصلاح والتغيير بالوسائل الديموقراطية عوضاً عن التقاتل. من هذا المنظار، أبدت قوى ديموقراطيّة ويساريّة وعلمانيّة تأييدها لاتفاق الطائف، كونه يمثّل محطة لنقل الخلافات السياسيّة من المتاريس إلى طاولة الحوار. فـ«نواقصه» و«ثغراته» التي سلّط الرئيس الحسيني الضوء عليها، كثيرة، وخاصة في ما يتعلّق بغياب الآليّة الدستوريّة الواضحة، ليس فقط التي تحكم العلاقة بين الرؤساء الثلاثة، بل القادرة على جعل رئيس الجمهوريّة يقوم بدوره كرئيس للدولة وكحكم فاعل ضابط للإيقاع ضمن مجلس الوزراء، أو في ما يخص علاقة مجلس الوزراء بمجلس النواب.
حلّ الدور السوري مكان الطائفة المارونيّة المهيمنة قبل الطائف، فأضحى هذا الدور هو الطائفة المهيمنة التي باستطاعتها ضبط إيقاع التجاذب بين الرؤساء الثلاثة، دون المرور عبر آليّة دستوريّة تعمل من خلال المؤسّسات وتؤمّن التواصل في ظل غياب الطائفة الجديدة المهيمنة / الدور السوري. وهذا ما حصل بعد اغتيال الرئيس الحريري وخروج السوريين من لبنان.
إن غياب القوانين التي تكلّم عنها الرئيس الحسيني، والتي من شأنها أن تنظم عمل دوائر رئاسة الجمهوريّة ودوائر رئاسة مجلس الوزراء وعمل السلطات القضائيّة والأجهزة الأمنيّة وقانون اللامركزيّة الإداريّة، يمثّل عقبة أساسيّة في عمل هذه المؤسّسات والتوازن في ما بينها، وإعلاء شأن الدولة وخيارها. لكن بالمقابل، فإنّ حضور هذه القوانين يحمل بعداً إيجابياً، وليس حلاً لأزمة حكم ونظام أعمق بكثير من أن يحلّها قانون ينظِّم دوائر رئاسة الجمهوريّة ورئاسة مجلس الوزراء.
«الوطن في خطر أكثر مما تعتقدون». هكذا خاطب الرئيس الحسيني، وهو على حقّ، زملاءه النواب وتابع: «كأنّنا نريد دولةً بلا مؤسّسات، كأنّنا نريد وطناً بلا مواطنين...».
نعم يريدون وطناً بلا مواطنين. المواطن حر. فأثينا اليونانيّة لم ترَ من لا يكون حراً مواطناً. الحر هو المواطن و«العبد» الذي فقد حريته ووجوده الفاعل لا يُعدّ مواطناً في عرف أثينا. إذاً نريد وطناً بلا مواطنين يعني بلا أحرار.
هكذا كان اتفاق الطائف الذي أعلى من شأن الطائفة على حساب المواطن وعلى حساب الوطن. لأنّ الطائفة هي الأساس وليس الوطن، وبقدر ما تتعزز الطائفيّة كعلاقة سياسيّة من خلال الدولة الطائفيّة، تغيب المواطنة ويضعف الوطن.
فقط «ممثلو» الطوائف كان لهم شرف الدعوة إلى الطائف؛ وحين فشل الطائف استؤنفت الدعوة إلى الدوحة، لعلّ مناخ الدوحة ينتج اتفاقاً أفضل، فكان إعادة إنتاج الطائف مع نظام انتخابي أسوأ مما قدمه الطائف.
لقد حمّل الرئيس الحسيني «الطبقة الماليّة المتحكمة» مسؤوليّة عدم إقرار «قانون انتخاب صالح». بالإضافة إلى خرق الدستور وتمزيقه «حيث ندفع بنصّ الدستور إلى أن يكون استهزاءً بروحه»، وربما يطال النقد هنا كلاً من المعارضة والموالاة اللتين كانتا معاً في التحالف الرباعي وعادتا معاً بعد الدوحة.
لقد تمسّكتا أحياناً بنص الدستور على حساب روحه ومقدمته. لقد خرجوا كلهم عن مبادئ الطائف، إن كان من خلال حكومة السنيورة ولمدة ثلاث سنوات منتهكة مبدأ «لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». واحتكموا إلى «عنف المال والسلاح» وشرعوا لقوانين انتخابيّة تناقض ما اتُّفق عليه في الطائف؛ بالإضافة إلى مشاركتهم كلهم، معارضة وموالاة، في تجاهل ما قال به الطائف من تأليف هيئة عليا لإلغاء الطائفيّة السياسيّة.
إن العودة بأخذ ما اتُّفق عليه بالطائف خطوة مهمة وضروريّة وإيجابيّة، ولكن غير كافية للتوقف عندها، بل تجاوزها نحو نظام انتخابي عصري، يعيد للمواطن حريته ووجوده وفاعليته بعدما غُيّب لمصلحة الطائفة، يمهد الطريق نحو نظام ديموقراطي علماني. كم غبيّة هي البرجوازيّة اللبنانيّة إن لم تبادر بإصلاح سياسي جذري أصبح ضرورة وجوديّة للبنان قبل أن ينهار الهيكل على من فيه.
كم كان الرئيس الحسيني على حقّ عندما ختم كلمته بـ«للفرد أن يعرف حدوده» ولكن نضيف: علينا أن نعرف أن للنظام الطائفي حدوده أيضاً، وإن محاولات «ترقيعه» من خلال العودة إلى «اتفاق الطائف» و«اتفاق الدوحة» وربما قريباً اتفاق «باريس ـــ دمشق»، وإن صدرت عن حسن نيّة، هي جهود ستذهب أدراج الرياح، وربما أعادت شبح الحرب الأهليّة من جديد آجلاً، إن لم يكن عاجلاً.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة