عصام نعمان *لبنان مجتمع متنوع. كذلك أزمته، متعددة الجوانب ومزمنة. يتفجر جانب من أزمته حيناً، وما إن يهداً حتى يتفجر آخر. ويحدث في زمن صعب أن تتفجر جوانب عدة من الأزمة المزمنة، فإذا بالبلد غارق في لجة حرب أهلية. لبنان اليوم يعاني من تفجير ثلاثة أو أربعة جوانب من الأزمة دفعةً واحدة، ما يضعه على مفترق بالغ الخطورة.
أيٌّ من جوانب الأزمة المستفحلة أخطرها، وكيف السبيل إلى مواجهته في سياق مواجهة أوسع وأفعل للأزمة المزمنة كلها؟
الجانب الأخطر في الأزمة هو ما تتصل مفاعيله بإسرائيل. إنه وجود المقاومة وعلاقتها بالجيش اللبناني، لا سيما من حيث الإجابة عن سؤال مفتاحي: لمن قرار السلم مع الكيان الصهيوني والحرب ضده؟
ثمة جواب نظري بديهي: الدولة ومؤسساتها هي صاحبة قرار الحرب والسلم، لا سيما الجيش.
لكن، هل ثمة دولة في لبنان؟ وأين جيشها وفعالية ردعها؟
ثمة فريق من أهل السياسة وأركان النظام يشير إلى هيكلية السلطة المرسومة معالمها في الدستور، والقائمة مؤسساتها على أوراق التخاطب البروتوكولي والممارسة الشكلية، ليقول إنها هنا موجودة أو، بالأحرى، محسوسة.
ثمة فريق آخر، أقليته من سياسيين محترفين وأكثريته من قادة رأي وقوى حية، تجزم بغياب الدولة وتقرر أن ما نقع عليه حيناً أو نحس به حيناً آخر هو مجرد آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان طبقة سياسية قابضة ومتحكمة، قوامها متزعمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال، وآمرو أجهزة أمنية.
إذا كان القضاء هو الحَكَم بين المتخاصمين والمتقاضين في الأمور المدنية والجزائية، فإن قاضياً كبيراً سابقاً ومحامياً قديراً حالياً نظر أخيراً في القضية الخلافية العالقة بين القائلين بوجود الدولة والجاهرين بغيابها، وأصدر فيها، بعد فحص دقيق لمجمل الواقعات والشواهد والأدلة والقرائن، حكماً صارماً بل آية ناطقة بالمنطق والموضوعية والرؤية.
إنّه حكم الرئيس سليم العازار، رئيس محكمة التمييز وعضو المجلس الدستوري سابقاً، كما جاء في المقالة ـــ الدراسة المنشورة له في جريدة «النهار» بتاريخ 2/9/2008.
قارب الرئيس عازار أزمة لبنان في ضوء ما يتردد في الوقت الحاضر من مطالبات واقتراحات عن ضرورة إحياء طاولة الحوار الوطني في القصر الجمهوري، عارضاً ما مرّ في «الدولة» الغائبة وعليها من أحداث ومفارقات، وما ينتظرها من تحديات، وما يمكن أن ينفع في مداواتها من علاجات، ليخلص إلى إصدار حكمه الصارم بغيبوبة الدولة، وليختمه بسؤال مترع بالمنطق وبالحس الوطني: «هل المطلوب من المقاومين الأبطال تسليم سلاحهم الآن ومدّ رقابهم كي تذبحهم إسرائيل فتتباهى «الدولة» عندئذٍ كذباً أمام أميركا بأنها تمسك بقرار الحرب والسلم؟!».
حكومة إيهود أولمرت منخرطة في الوقت الحاضر، عبر تركيا، في مفاوضات غير مباشرة مع سوريا. صحيح أنّ أولمرت سيستقيل منتصف الشهر الجاري عقب فراغ حزبه (كديما) من اختيار خليفة له في القيادة ورئاسة الحكومة، لكن ذلك لن يفضي إلى التخلي عن خيار المفاوضات. فالتفاوض مع دمشق قرار اتخذته القيادة العليا الإسرائيلية، حيث للجيش دور رئيس وتأثير وازن. وهو قرار يخدم، على ما يبدو، غرضاً استراتيجياً حيوياً: محاولة تحييد سوريا وفك تحالفها أو تفاهمها الاستراتيجي مع إيران، بإعطائها قسماً من حقوقها المحددة في قرارات الأمم المتحدة، وبوعد بإعطائها القسم الباقي من خلال روزنامة زمنية متدرجة، كل ذلك من أجل ضمان استفراد إيران في المستقبل بمعزل عن أي مشاركة أو عون لها من طرف عربي.
سوريا تدرك جيداً أغراض إسرائيل في المديين القصير والطويل، ولن تتورط بالتأكيد في أي صفقة تمس حقوقها وأمنها القومي ومستقبل علاقتها الاستراتيجية مع إيران. في هذا السياق، يقتضي التحسب أيضاً لما تريده إسرائيل من سوريا في لبنان. فقد أصبحت إيران، بالمعنى الجيو ـــ استراتيجي، على حدود إسرائيل الشمالية مع لبنان من خلال حزب الله، وعلى حدودها الجنوبية مع قطاع غزة من خلال حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي». ذلك أن إسرائيل ترى المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية حليفتين للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويقتضي، تالياً، ضمان تعطيل فعاليتهما، اللوجستية ومن ثم العسكرية، في أي صفقة يمكن لتل أبيب أن تتوصل إليها مع دمشق.
يصعب على سوريا، إن لم يكن يستحيل عليها، أن تتخلّى عن تحالفها مع إيران والمقاومة اللبنانية والفلسطينية مقابل تنازلات إسرائيلية جزئية في الجولان.
ثمن مصالحة إسرائيل هو من الضخامة بحيث لا يقل عن تسوية شاملة كاملة تنسحب بموجبها إسرائيل من كل الأراضي السورية واللبنانية المحتلة، على أن تدفع للبلدين بالتزامن معها تعويضات ضخمة عن الخسائر والأضرار الناجمة عن حروبها الوحشية والتدميرية، كما تنسحب بموجبها إلى خطوط وقف النار في فلسطين كما كانت عليه في 1967، وترضخ بموجب معاهدة تضمنها الأمم المتحدة والولايات المتحدة لقرار عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم والتعويض عليهم، وقيام دولة فلسطينية سيدة مستقلة. هذه هي، أو يقتضي أن تكون، تسوية الحد الأدنى بالنسبة لسوريا.
لا تسوية منتظرة، والحالة هذه، بين سوريا وإسرائيل في الحاضر والمستقبل المنظور. يتأسس على ذلك أنّ لا فرصة للتعايش تالياً بين إسرائيل القلقة على أمنها القومي من التحدي النووي الإيراني ومن تحدي حلفائها المقتدرين في لبنان وغزة.
هذا هو رأي إسرائيل كما يتبدى في مواقف قادتها وتصريحاتهم، وفي آراء كتّابها وصحافييها وتعليقاتهم، وهو أيضاً رأي قادة المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
وفي ظلّ وضع اللاتعايش الكامل بين إسرائيل ولبنان المقاوم، يقتضي رصد التطورات والتحسب للتحديات ورسم الاستراتيجيات. فما هي لوحة المواقف القائمة والمحتملة لدول المنطقة؟
إسرائيل لا تحتمل وجود مقاومة قوية ومصممة على التصدي لها في لبنان. وإذا كان يتعذر على إسرائيل اقتلاع المقاومة، فإن خيارها البديل هو إلهاؤها بتحديات واضطرابات محلية، وصولاً إلى تعطيل فعاليتها، فلا تعود قادرة على الهجوم ولا تكون متمكنة أو فاعلة في حال الدفاع عن النفس.
لذلك، فإن سياسة إسرائيل ووكلائها وحلفائها المستترين في لبنان هي محاصرة المقاومة بمواقف العداء السياسي، واستنزافها بعمليات التصادم الطائفي والمذهبي، ومحاولة جرها إلى أشكال من الاقتتال الأهلي لتجويف قدراتها وفعاليتها.
دول «الاعتدال» العربية لا تحتمل هي الأخرى ظاهرة لبنان المقاوم. ذلك أنه يستجرّ منها، بل يفرض عليها، التزامات سياسية ومالية لا تريدها. من هنا فإنها تميل إلى دعم القوى السياسية المناهضة للمقاومة، آملة أن تتمكن هذه القوى من بناء موازين قوى محلية متعادلة، ما يؤدي، في ظنها، إلى احتمالين: تحويل المقاومة قوةً سياسية، وبالتالي تقليص قدراتها القتالية، أو استنزاف هذه القدرات بما يؤدي إلى تعطيل دور المقاومة القتالي وربما إنهائه.
في ضوء هذه الواقعات والتحديات والاحتمالات، ما عاد في وسع الأطراف المعادية للمقاومة أن تطالب بحوار وطني لتعاود طرح شعاراتها ومطالبها التقليدية القديمة ـــ الجديدة. فلا الدولة في لبنان قائمة فعلاً لتطلب لها السيادة أو لتتمكن بوضعها المهترئ الحالي من ممارستها، ولا الجيش بتنظيمه وتسليحه الراهنين قادر على استيعاب المقاومة، ناهيك عن تجريدها من السلاح، فما بالك باضطلاعه بمسؤولية الدفاع عن البلد أو إنهاء احتلال إسرائيل لقسم من أراضيه.
كل ما يستطيع أن يفعله الوطنيون العقلاء، هو أن يجترحوا استراتيجية للدفاع الوطني، يكون التركيز فيها على المناهج والآليات والمقاربات والأدوات التي تكفل أعلى درجات التضامن والتعاون والتنسيق، بين الجيش والمقاومة، ولا سيما في هذه المرحلة الانتقالية التي تمرّ فيها المنطقة نتيجة التغيير المحتوم في قيادتي إسرائيل والولايات المتحدة.

* وزير سابق