strong>إسكندر منصور *أقرّ بعض مثقفي 14 آذار بـ«الهزيمة» بعد ثلاث سنوات من السّجال والكتابة والوعود بأنهم على قاب قوسين من تحقيق شعار ثورة الأرز في «الاستقلال» و«السيادة»، وبأنّ قضيّتهم عابرة للطوائف، تكمن في صلبها قضيّة استعادة لبنان لبنانيّته بعدما عاث غير اللبنانيين (السوريون) بها فساداً وانتهكوا هويّته الوطنيّة وألّبوا الطوائف اللبنانيّة بعضها على بعض، بعدما عاشت في «وئام» و«سلام» و«طمأنينة» منذ أن كان هناك طوائف حتى مجيء «الغرباء». حتى إن بعض مثقفي 14 آذار وقادتها وصل بهم الوهم بأنّ 14 آذار تحمل مشروعاً سياسيّاً وفكرياً للبنان، قوامه بناء دولة أسسها الحداثة والديموقراطيّة والعلمنة والمساواة، وطبعاً على رأس القائمة «حب الحياة».
ذهب بهم الخيال للتنظير بأن هناك انقساماً حاداً «ليس من طبيعة طائفية وليس انقساماً سياسياً بالمعنى الضيّق للكلمة... وإن أعمق ما في هذا الخلاف هو البعد الثقافي»، حيث نمثّل «ثقافة السلام والعيش معاً والوصل» ويمثلون «ثقافة العنف والفصل». وأخيراً جاء من يقول إن الانقسام هو بين محوري الخير والشر.
سقط القناع، كل القناع، وبدت قوى 14 آذار عارية كما هي على حقيقتها؛ لا وهم يظللها ولا شعارات «الاستقلال» و«الدولة» و«الدستور» قابلة لتحجب ارتماءهم في أحضان من أعطى الضوء الأخضر للعدوان على لبنان وتدمير مدنه وقراه وأطفاله وجسوره؛ ولا آثار القبلات التي طبعها كل من ولش ورايس لقادتها باستطاعتها تأجيل إعلان الهزيمة. ومع ذلك يقولون إنّ مكامن قوتنا أننا «نحن نملك أولاً حريتنا». لم تُهزَم 14 آذار على يد 8 آذار ولا على يد حلفائها الدوليين المتخصّصين في التخلي عن «حلفائهم» أدواتهم متى استُنفِد دورهم؛ بل هزمت أولاً وأخيراً على يد 14 آذار.
خلال اللقاءات وصياغة الوثائق السياسيّة ونقاشها، أعرب بعض مثقفي 14 آذار عن أملهم وتمنياتهم بأن تغادر قوى 14 آذار ضفتها كتجمع أو تجميع لطوائف إلى ضفة جديدة عابرة للطوائف.
لا غبار على التمنيات والنيات الحسنة، ولكن هذه التمنيات تعكس فقراً في معرفة طبيعة القوى وخلفياتها الطائفيّة منها والطبقيّة التي تؤلف ما عرف بـ14 آذار، وكذلك ضعفاً في قراءة خطب قيادتها وأفكارهم وتحركاتهم ومناوراتهم وأولوياتهم وتاريخهم.
يقول عباس بيضون: «بدأ فريق 14 آذار وفي يده كل شيء. الأكثريّة الشعبيّة والدعم الداخلي والدولي والعربي، ولم يفعل سوى التفريط بقواه لأسباب ليست جميعاً موضوعيّة ولا إجباريّة. كان للتقدير الجاهل وللغطرسة وللمصلحة الضيقة والمياومة السياسيّة دخل كبير في كل ذلك». («السفير» 7/28/2008).
ربما كان هذا النقد يمثل بعضاً من الحقيقة؛ ولكن هل حقاً كان عباس بيضون ينتظر من 14 آذار أن تعطي غير ذلك؟ (مثلاً: حداثة واستقلالاً حقيقياً وإصلاحاً، ومجتمعاً عابراً للطوائف). لا أحد يستطيع أن يعطي مما لا يملك، فـ«فاقد الشيء لا يعطيه».
أما قولنا بأن 14 آذار لم تُهزَم على يد 8 آذار فهذا صحيح. لأنّ تجمّعَ طوائف لا يستطيع أن يهزمَ تجمّعَ طوائف أخرى؛ كلاهما يتنشق الهواء نفسه، ويتكلم اللغة نفسها، ويعبّئ مناصريه بالأسلوب نفسه، وإن كان هناك فوارق مهمة بالمواقف السياسيّة، أهمها الموقف من حرب تموز.
لم يهزم مشروعَ الدولة مشروعُ اللادولة. فكلاهما مشروع ساحة لا دولة بالمعنى الحديث للدولة. لا تملك 8 آذار مشروع بناء دولة نقيضاً لـ14 آذار. فاتفاق الدوحة أكدّ ذلك كما أكدّ أن ما يجمهم لا يفرِّقه أحد. كانت بذور الهزيمة تعيش داخل 14 آذار. بعد خروج السوريين ما جمعها هو الثأر والعداء وحب الانتقام على حد قول أحد أئمتها الكبار وليد جنبلاط.
ما بنى يوماً الثأر وطناً ولا الانتقام صنع سلماً. ربما هنا يصحّ السؤال: لماذا استمر «التفاهم» بين التيار الوطني الحر وحزب الله بحرارة، بينما تصدّع تحالف 14 آذار؟
بدأت الحكاية مع ورقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر؛ التفاهم الذي استمرّ وتعزز وتوسعّ ليشمل تيار المردة، وعلى عكس تحالف 14 آذار الذي بدأ بالتصدّع و«الاستسلام كتأجيل للهزيمة» (عباس بيضون).
ساهمت ورقة التفاهم أولاً: في تعزيز التقارب وثانياً: في بروز ما يعرف بـ«العونولوجي» أو المتخصصين بالجنرال عون وبهبوط شعبيته التي لا تدري ماذا تريد ولا تعرف إلى «أين يسوق الجنرال عون المسيحيين» (عباس بيضون)، لقد اختطف الجنرال عون الطائفة المسيحيّة وحملها عنوة إلى غير موقعها الأصيل؛ وهكذا اختار المسيحيون موقعاً بعكس «مزاجهم» (حازم صاغيّة).
وكما كان هناك «العونولوجي»، كان «النصرلوجي» المتخصصون بالسيّد حسن نصر الله وما تعنيه حركة يده ورفع إصبعه، وبولاية الفقيه والغيبة الكبرى والغيبة الصغرى والإمام الغائب و«التكليف الإلهي» والتقيّة والمهدي المنتظر.
كل كتّاب 14 آذار أصبحوا فقهاء بالشيعة وأئمتهم ومزاجهم وثقافتهم ونزعة حزب الله ـــ بـ«عكس» وليد جنبلاط ـــ نحو الشموليّة. فبعد كل خطاب يبدأ المفسرون والمؤوِّلون عملهم اليومي في إضفاء معانٍ جاهزة يبدأ التحضير لها حتى قبل إلقاء السيّد خطابه. وعلى هذا المنوال مرّت ثلاث سنوات من عمر الوطن.
انتقلت العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله من حالة تفاهم إلى حالة تحالف، عزّزها موقف الجنرال في حرب تموز. يذكر أبو زينب أنه زار العماد عون خلال الأسبوع الأول من حرب تموز ليضعه في الأجواء الميدانيّة والسياسيّة دون أن يكون عنده أي تصوّر لمدى تفهم الجنرال وتقبّله لما جرى ويجري.
وبعدما تأكد الجنرال من متانة الوضع العسكري للمقاومة قال: «اذهبوا وقاتلوا، الموقف السياسي عليّ». كان ردّ الجنرال عون « يفوق تصّور حزب الله». لم تكن الحرب حرب مناوشات. كانت حرباً هدفها المعلن القضاء على المقاومة كخطوة نحو «ولادة الشرق الأوسط الجديد» على حد تعبير كوندوليزا رايس، الذي من أجله استنفر الحلف الأميركي ـــ الصهيوني ـــ السعودي كل ما في جعبته من سلاح الحرب والتهديد و«الدبلوماسيّة».
كانت الرسائل تصل الجنرال عون في الرابية لفكّ التفاهم / الرباط مع حزب الله «القضيّة الخاسرة» و«القصّة المنتهيّة» حسب السيناريو المُعَدّ منذ فترة في الدوائر الأميركيّة والإسرائيليّة. في تلك اللحظات من تاريخ لبنان، كان الجنرال يفهم أبعاد الرسالة بأنّ التفاهم المطلوب فكّه في تلك اللحظات ليس مع حزب الله فقط بل مع لبنان كبلد سيّد حر ومستقل.
لم يفكر الجنرال في تلك اللحظات من تاريخ لبنان بالمكاسب السياسيّة والشخصيّة التي هي عادة من أولويات السياسيين. لو فكّر بها لاختار طريقاً آخر. أصبح الوطن هو الأساس. هذا ما أقسم عليه اليمين وهو في الجيش. لا مكان للحياد متى كان الوطن في حرب؛ وخاصة مع عدو حاقد يكره أطفال لبنان وجسوره وعاصمته ومقاوميه، نعم ومسيحيّي لبنان.
لم ينتظر دوراً ليعطى له. عرف مكانه منذ اللحظة الأولى. كان جزءاً من استراتيجيّة الدفاع عن الوطن. لم يسمح للإسرائيلي ولا للإدارة الأميركيّة بأن يستغلا الداخل اللبناني للانقضاض على المقاومة. لأنه أمّن المساحة الفعليّة للمقاومة لتقاتل الإسرائيلي وهي مرتاحة الظهر.
كان الجنرال قائداً للجبهة السياسيّة داخليّاً وعربياً ودولياً. فـ«الجنرال عون جسّد شراكة سياسيّة ووطنيّة تُعدّ من أهم المواقف السياسيّة وأعظمها التي كانت جزءاً من معركة هزيمة العدو الإسرائيلي في حرب تموز، إذ لولا موقفه هذا لما انتصرنا» (غالب أبو زينب).
أين مكامن القوة في علاقة حزب الله والتيار الوطني الحر؟ وكيف تمكّن كل من حزب الله والتيار الثبات والحفاظ على ورقة التفاهم وروحيتها حتى في أصعب الظروف؟
لا شك في أن شخصيّة كل من السيّد نصر الله والجنرال عون لعبت وما تزال الدور الحاسم في التأكيد على احترام التعهدات والتفاهمات التي لم تأتِ من فوق، من قوة وصاية إقليميّة كانت أو دوليّة؛ بل كانت نابعة من خيارات حرّة لكل منهما، وهذا مكمن قوّتها.
منذ اللحظات الأولى لتوقيع ورقة التفاهم سرت مفاعيلها في قاعدة كل من التيار والحزب، كأنها كانت نتيجة ربع قرن وأكثر من المواقف السياسيّة المشتركة بين الاثنين؛ فكثرت اللقاءات والندوات المشتركة.
إنّ تماسك القاعدتين ـــ التيار الوطني الحر وحزب الله ـــ في أحلك الظروف، وبالرغم من الحملات الإعلاميّة المنظمة والمضلِّلة والمستمرة، وخاصة على العماد عون، حيث لم يبقَ كاتب و«مثقّف» في الإعلام المكتوب والمرئي إلا وأظهر شفقته على مسيحيّي التيار الذين «لا يدرون ماذا يفعلون» (حازم صاغيّة) وتنبّأوا بهبوط شعبيته ونهايته المحزنة. بالرغم من موقفنا النقدي تجاه شعارات قوى المعارضة وعملها وممارستها خلال السنوات الماضيّة نقول:
ماذا لو وظِّف هذا الوفاء والتفاهم والثقة المتبادلة بين التيار الوطني الحر قيادة وقاعدة وبين حزب الله قيادة وقاعدة، في برنامج واضح سياسي واقتصادي، ومن أجل بناء دولة حديثة قويّة وقادرة على حماية لبنان أرضاً وبحراً وسماءً؛ ونظام انتخابي عصري يؤمّن تمثيلاً صحيحاً يضمن التنوع والمساواة؛ وبرنامج اقتصادي يكفّ عن تحميل عبء الديون لعمال لبنان ومنتجيه وذوي الدخل المحدود، ويقوم على تنمية قطاع الإنتاج وخلق فرص عمل من أجل بقاء اللبناني في وطنه. هل هذه المطالب كثيرة؟ لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة