بيار أبي صعبفي ٢٣ آب / أغسطس الماضي، سقط في بغداد الكاتب والأكاديمي كامل شيّاع، برصاص مسلّحين مجهولين كمنوا له بكواتم الصوت في أحد شوارع المدينة.
فُجع المثقفون العراقيون على اختلاف مواقعهم الفكريّة ومنافيهم، باغتيال زميلهم الذي كان يمثّل صوتاً تقدّمياً حقيقياً في هذا الزمن النغل.
رثينا كامل شيّاع الصديق والرفيق والمثقف، بصفته «شهيد اليوتوبيا العربيّة»، كونه اختار رهاناً صعباً، بل مستحيلاً، هو العودة إلى بغداد بعد ربع قرن من المنفى الأوروبي، لـ«مواكبة لحظة من لحظات زمن مضطرب وواعد»، كما كتب حينذاك. هل كان من الممكن أن يحمل المرء مشروعاً نهضويّاً ووطنياً إلى العراق 2003؟ منذ ذلك الحين، بقي السؤال مطروحاً عليه وعلى كثير من رفاقه الذين رفضوا العودة خشية أن يُحوّلوا كومبارساً في المهزلة الدامية.
كامل حسم أمره، وأقدم على تلك الخطوة التي ناقشها مطوّلاً فيما بعد، علماً أنّه لم يكن يمتلك أوهاماً حول هامش المناورة المتاح في بلده القابع تحت جزمة «ساحر أميركي أحمق وخطر». ومع ذلك، قرر ألا ينتظر أكثر في بروكسل، ريثما تأتيه الظروف التاريخية الملائمة للانتقال إلى العمل الميداني، هو المشغول بـ«إعادة تأسيس تاريخنا الحديث، خارج المدارات العقيمة التي فصلت الروح عن الجسد، والفكرة عن الواقع، واللغة عن المعنى».
ألم يكتب يومذاك لأحد الأصدقاء: «لا أريدك أن تحسب التطلّع إلى الآفاق تفاؤلاً... فلست أرى أمامي سوى القديم الذي ما زال يقاوم، والجديد الذي يحاول أن يناور»؟.
ومن مدينته الجريحة، كتب متضامناً مع اللبنانيين خلال عدوان ٢٠٠٦ في ثاني أعداد «الأخبار»، ضمن ملف من الشهادات والرسائل التي نشرت تحت عنوان «رسائل إلكترونية... إلى شجر لا ينحني» (١٥/ ٨/ ٢٠٠٦): «بعد بيروت بغداد، ثم بيروت مرة أخرى. المخطط يبدو واحداً: تدمير عاصمتين بحثاً عن الجواب الفصل في الفرق بين الإرهاب والمقاومة، العدوان والدفاع عن النفس، والحرب العادلة والحرب الظالمة. وهذا البحث يبقى هو هو، وإن اختلفت الخريطة وتغيّر الزمن. إسرائيل والولايات المتحدة في الحقيقة شريكتان في تطبيع مسار تاريخنا «الأعوج»، وفي الاجتهاد بالتشريع للأقوى». وواصل كامل: «في بغداد، فتحت القنابل الذكية مغارات علي بابا، وأوقدت ليل المدينة بأنوار العصر الأميركي الجديد. المارينز يدهمونك في الشوارع، والحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة قطّعت أوصال عاصمة الرشيد. أما المروحيات المغيرة فتمزّق هدوء المساءات... وتنطلق الحمامات مذعورة من بين أغصان أشجار البرتقال. هل لنا أن نبتهج بخرابنا القبيح؟».
نعم، لقد اختار أن يكون هناك وسط شعبه. كان متيقناً من أن «قضاة التاريخ المزيفون سيمضون كسحابة صيف...»، فأخذته حماسته، حاجته إلى استعادة الكلمة والمبادرة، إلى الطريق المسدود. لكن كلاماً متشنجاً واختزالياً نُشر عبر الشبكة الافتراضيّة، معتبراً أن التحيّة التي وجّهناها إلى كامل («الأخبار»، 26 آب/ أغسطس 2008)، تندرج في خانة «المساومة» مع الاحتلال في العراق (!) وهذا الخطاب التخويني، الدموي، الذي لا نستطيع أن نقبله، يبتهج ضمناً بسقوط مثقف عراقي مثل كامل شيّاع، بل يكاد يتبنّى اغتياله باعتباره «قصاصاً» عادلاً، وفعل «مقاومة»!
الفرق كبير بين الإرهاب والمقاومة يا أصدقاء. وقتلة الكتّاب والمثقفين الشرفاء لا يقاومون المحتّل، بل يقوّضون القوى الحيّة للمجتمع في لحظة بؤس فكري وانتحار جماعي. دافع كامل ــــ على طريقته ــــ عن نظرة مختلفة إلى العراق. كان يحمل مشروعاً يجتمع حوله كل الحالمين بإخراج العرب من الجاهليّة إلى الحضارة، عبر كسر دوائر التعصب والتخلّف والقبليّة والغيبيّة والمذهبيّة والقمع والإقصاء والديكتاتوريّة والتيوقراطيّة، وبناء دولة القانون والعدالة، والمجتمع المدني والتعدديّة.
الفرق أنه قرّر التعامل مع الأمر الواقع، وآمن بإمكان الإصلاح من الداخل، ولم يقدّر خطورة هذا العقد الفاوستي الضمني الذي أبرمه مع دولة الاحتلال.
لعلّه ارتكب خطأً فادحاً (قاتلاً؟) حين رأى أنّه من موقعه كمسؤول في وزارة الثقافة داخل حكومة الاحتلال، يمكنه أن يفعل شيئاً في خدمة أفكاره التنويريّة والتقدميّة والوطنيّة. وكان النقاش معه مفتوحاً حول ذلك المأزق. نزاهته الفكريّة كانت قد بدأت تقوده إلى مراجعة حساب جذريّة لتلك التجربة، كما تثبت كتاباته ومراسلاته خلال الأشهر الأخيرة. وتلك المراجعة المنتظرة كانت لتغني النقاش، إذ يقوم بها شاهد ملك من «داخل الكرنفال» حسب تعبير سعدي يوسف.
لكن الإرهابيّين ــــ وهم بخطورة العملاء، متساوون معهم في القدرة على الإساءة إلى المشروع الوطني والقومي البديل ــــ لم يمهلوه الوقت الكافي.
كلا، كامل شيّاع لم يكن عميلاً، بل مثقفاً طوباوياً، ذهب إلى المعمعة واحترق بتناقضاتها. إنّه شهيدنا مع سبق الإصرار.