محمد زبيبقد تخرج أصوات من هنا أو هناك، لتعلن اعتراضها على قرار الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، في شأن تصحيح الأجور. فهذا القرار، برأي الجميع، لم يأتِ في سياق معالجة مطلوبة، وبإلحاح، لمشكلة اقتصادية ـــــ اجتماعية متراكمة، بل أتى في سياق سياسات «التعويض» نفسها التي اعتمدتها الطبقة السياسية منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، والتي وصفها الرئيس الراحل رفيق الحريري، في كتيّبه الانتخابي في عام 2000، بأنها العملية الضرورية التي تقوم على «شراء السلم الأهلي بالمال»! إلا أنّ أصوات المعترضين لن تتجاوز، في هذه اللحظة السياسية، إصدار بيانات التنديد والرفض «اللفظي» لبعض التفاصيل المختلف عليها بين الأطراف المعنية، وقد تصل في قطاعات معينة، كهيئات التعليم، إلى مستوى تنفيذ الاعتصامات العابرة، ولكن بغرض «إثبات» الحقوق الوظيفية لا العمل على «تثبيتها»... فلا الاتحاد العمالي العام (والتنظيمات العمّالية الأخرى) قادر على الذهاب إلى تحركات ذات طابع جماهيري، في ظل تركيبة قيادته غير النقابية، والتي تسيّرها حسابات القوى المهيمنة على السلطة، أو المشاركة فيها... ولا هيئات أصحاب العمل راغبة في التصادم مع هذه القوى، التي لا تعبّر إلا عن مصالح هذه الهيئات (مصارف وتجّار وشركات عقارية وسياحية وخدمية مختلفة)، باستثناء الصناعيين، طبعاً، الذين يتعرّضون منذ سنوات لأوسع عملية تهميش، ناجمة عن إعادة ترتيب ميزان المصالح «المذهبية»، وتعبيراتها القائمة في بنية الاقتصاد وآليات التوزيع واستقطاب الثروة.
لقد كان وزير المال محمد شطح شديد الوضوح في وصفه قرار مجلس الوزراء بأنّه «متوازن»؛ فهذا القرار، الذي ينطوي على إعطاء الأجراء والمستخدمين «النظاميين» في القطاعين العام والخاص مبلغاً مالياً مقطوعاً بقيمة مئتي ألف ليرة على جميع الأجور من دون أي تمييز بين الفئات أو شطور الأجر... لم ينجم عن دراسة موضوعية لما يمكن القيام به الآن وعلى المدى المنظور من أجل التصدّي للتداعيات الهائلة التي فرضتها التطورات في السنوات الأخيرة، بل فرضته الحاجة إلى تمرير «تعويض» سريع ومباشر لشريحة من الناس (على غرار تعويضات المهجرين والتعويضات عن الأضرار والقتلى والجرحى)، بهدف تيسير «الهدنة» المفروضة، عبر امتصاص بعض الآثار الخطيرة التي تركتها خطابات «الفتن المذهبية» و«الحروب الأهلية» المتمادية على مدى السنوات الثلاث الماضية.
إنّ «التوازن» المقصود في وصف هذا القرار، هو بمعنى «الحياد» السلبي الذي تصرّ الطبقة السياسية على ممارسته من أجل حماية المصالح المترسّخة في النموذج السياسي ـــــ الاقتصادي القائم، أي إنه ليس حياداً طبقياً، كما يوحي، أو تسوية متوازنة بين المصالح المتناقضة، بل هو حياد يستهدف «تحييد» دور مؤسسة «الدولة» في إرساء الاستقرار الاجتماعي كشرط مسبق لتحقيق الاستقرار السياسي والتنمية والنهوض الاقتصادي المستدام، وبكلام آخر، هو «حياد» يوازي «الانحياز» إلى كل ما يمنع قيام «الدولة».
فلبنان يواجه حالياً، وربما لأول مرّة، ظاهرتين متناقضتين لا تجتمعان عادة في بلد واحد وفي الوقت نفسه؛ فمن جهة، هناك ظاهرة ارتفاع أسعار الغذاء والمواد الأولية ولا سيما النفط، وكلها سلع يستوردها لبنان بشكل شبه كلي، ما يجعله مكشوفاً بالكامل أمام التطورات الخارجية، وبالتالي يؤدي ذلك (بالتضافر مع عوامل محلية كثيرة وعظيمة) إلى تراجع مقلق في القدرات الشرائية لفئات واسعة من اللبنانيين وفي القدرات التنافسية والتصديرية لمؤسسات الإنتاج...
ومن جهة ثانية، هناك ظاهرة تنامي التدفقات والتحويلات المالية إلى لبنان نتيجة تراكم فوائض مالية هائلة في منطقة الخليج المنتجة للنفط، وهو ما يظهر بوضوح من خلال معدّلات نمو الودائع المصرفية وارتفاع أسعار العقارات وتزايد مشاريع البناء والنشاطات السياحية...
وعلى الرغم من التحديات الصعبة التي يفرضها تزامن هاتين الظاهرتين، إلا أنه يجسّد الأولوية المفترضة لإعادة النظر في كل السياسات «الحمقاء» المعتمدة، بما يوصل في النهاية إلى «توافق» على خيار بناء الدولة الراعية، بدءاً من استعادة «الدولة» من المجموعات الطائفية والحزبية التي تستولي عليها، وصولاً إلى استعادة دور «الدولة» الأساسي في إنتاج آليات إعادة التوزيع العادلة للدخل والثروة، مروراً بدعم الفئات الاجتماعية المهمّشة والقطاعات الاقتصادية المولّدة للقيم المضافة وفرص العمل والقادرة على تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد المحلي والصادرات السلعية والخدمية...
طبعاً، كان يمكن أن يأتي تصحيح الأجور في هذا السياق، فلا يثير إشكاليات كبيرة في شأن نوعية التصحيح وحجمه وتداعياته على الأجراء وعلى المؤسسات، لأنّه كان سيأتي مدعوماً بإجراءات تهدف إلى تعزيز دور الدولة في تأمين الحقوق بالرعاية الصحية والتعليم والسكن والعمل وتعويضات البطالة والتمكين من الوصول إلى الخدمات الأساسية وخفض أكلاف الإنتاج وأسعار الأصول والخدمات...
لكن الطبقة السياسية لا تشعر بحاجتها إلى كل هذا التغيير، بل على العكس، فهي تشعر بالراحة الكاملة، ولا تحتاج الآن، في خضمّ الصراعات بين أطرافها، إلا إلى زيادة درجة الهشاشة في مشروعية الدولة ومؤسساتها وخدماتها، لتبرير الخطاب المتصاعد الداعي إلى تصفية كل أشكال التدخّل، فهي بذلك تضمن زيادة الطلب على خدماتها هي، والتي لا تُصرف إلا في مقابل تعزيز الولاءات المذهبية والمناطقية والحزبية.