الزواج ليس خياراً في مجتمعاتنا، إنه قدر حتمي، ليس المهم في نظر الكبار والصغار أن يتزوج المرء بمن يحب، بل الأهم أن يتزوج، وعلى رغم هامش الحرية الذي اكتسبتها الفتاة في العقود الأخيرة، فإن سلطة الأم قوية، تصل أحياناً إلى أن تختار الأخيرة العريس لابنتها، هكذا يجد بعض العازبين أنفسهم هدفاً في مرمى أم العروس
خضر سلامة
«يا مشحر، عزا كيف تاركيتك أمك بلا زواج؟» تصرخ أم جعفر، الستينية، بلكنتها الجنوبية، يُحرج عليّ (21 عاماً) قليلاً، يبتسم، يحاول أن يشرح لها المدة الباقية من رحلته الدراسية، وكلفة تأسيس عائلة، أن يشرح لها تحوّلات جيلها وجيله، تعاجله الزائرة بعرضٍ مفاجئ: «عندي بنت صبية غير شكل، قطعة قمر وهابطة من السما، كمّل دينك يا زلمي»، يضحك الجالسون مع علي، الراوي، الغاضب من هذه المواقف المحرجة، فيعاجلهم بالكلام عن حادثة أخرى. في جلسة عائلية، أثناء استقبال عائدين من السفر، «حين تحدثت أمي مع ضيفتنا عن شروط الزواج، وما ينقصني أنا لتكوين أسرة، ابتسمت الأخيرة، وربتت على كتفي، «اسم الله عليه، ألف وحدة بتتمناه لبنتها، هو بس يطلب ويتكل ع الله والعروس موجودة».
الظاهرة إذاً موجودة، يكفي أن تُعجب الأم بشاب لأي سبب كان، لخُلقه أو لنسبه، أو لوضعه المادي أو غيره، لتبدأ عندها بنصب الشرك اللازم لـ«تسويق» ابنتها للزواج، ومن ثم يأتي دور إقناع الفتاة بصواب خيار أمها، لتكون هذه الأخيرة قد فرضت رأيها و«ركّبت» العلاقة كما تراها هي، وتُقنع بها أطرافها المفترضين، أنها العلاقة الأنسب لابنتها، طفلتها وصندوق سلطتها. المعالجة النفسية الدكتورة سهى بيطار، ترى في مثل هذه الحوادث «ظاهرة غير سليمة، لا بل غير مقبولة اجتماعياً حتى، حيث تكون الأم عادة متحفظة في موضوع الزواج، فهي لا ترقص في عرس ابنتها، وطبعاً ليس مقبولاً أن تكون هي من يبحث عن العريس لابنتها، بل تكون عادةً في موقع انتظار الطلب لا القيام بالعرض»، وتتابع بيطار متحدثة عن «كون هذه الظاهرة مضرة بصورة الأم ـــ الامرأة في مجتمع محافظ كمجتمعنا».
أما عن النقاط السلبية في الظاهرة، فترى بيطار أن الأم في مثل هذه الحالات تتزوج من الشاب عبر ابنتها! «بمعنى أنها تنطلق من إعجابها هي به، فنكون أمام حالة شاذة نفسياً، حيث تحقق رغبتها وتشبع إعجابها عبر تزويجه هو لابنتها، والوصول إلى شاب أعجبها هي، مستعملة ابنتها كأداة».
وتتابع بيطار متحدثةً عن سلطة الأم، فهي قادرة على تحويل هذه السلطة إلى تسلط «ويُضاف إلى ذلك قدرة المرأة عبر الزمن شيئاً فشيئاً على توسيع هامش حركتها وحرية تحكمها بخياراتها، فبعدما كان الرجل يتكلم وحده، أصبحت قادرة على إدخال قرارها في صنع يوميات الأسرة، لنجدها عنصراً مشاركاً في موضوع الزيجات مثلاً، بل أحياناً، عنصراً حاسماً».
أما عن الأسباب التي تدفع الأم إلى محاولة «التلقط» بعريس ما، «فلكل حالة ظروفها واستثناؤها، كل حالة قد تكون خاصة، فعدا عن محاولة الأم إثبات القدرة على التحرك والتحكم «فهو نابع أيضاً من حرصها على مستقبل ابنتها، سواء المادي أو الأسري، عبر اختيارها بنفسها الشاب الأفضل أحياناً من هذه النواحي، ليكون تدخلها الضمان النفسي للارتياح لشكل حياة الابنة، كما يجب أن نرجح أيضاً محاولتها إرضاء الطفل الذي تحاكيه البنت في شخصية الأم، فالأخيرة ترى صورتها في ابنتها». وتتكئ بيطار على تقسيمات لاكونت الثلاثة للعالم «الواقعي، المتخيل والخيالي» حيث يكون المتخيل هو الأهم بينها، في إسقاطها النظري على هذه المشهدية الاجتماعية، لما تتخيله الأم، وتحاول على أثره تطبيقه على أرض الواقع.
بيطار تكمل: «ويجب أن نلاحظ هنا، أن للأم قدرة كبيرة على الإقناع، الأب أعطى البذرة فقط، أما الأم فهي صاحبة التفويض النفسي أمام أبنائها، فهي تستطيع أن تمرر خياراتها عبر إقناع ابنتها مثلاً بأي قرار تأخذه دون أن تجبرها، بل عبر الإقناع التام بواسطة سلطتها النفسية والتربوية والعاطفية، أمام واقع أن كل الأطفال «يريدون رضى والدتهم».
تميز بيطار بين الطاقة الذكورية، الموجهة والمباشرة، والطاقة الأنثوية المكتنزة بالحيل وبالسياسة، وحيث يكون في مقاربة الأنثى للمشهد تكتيك وهدوء وصبر، ما يتيح الفرصة جيداً لتدخل الأم في قرارات كتلك المتعلقة بالزواج، أو بانتقاء العريس.
أخيراً، تعود الدكتورة سهى بيطار إلى إصرارها على أن هذه الحالات، أي حالات «طلب يد عريس»، هي مشاهد غير سليمة، لا سيما أن للأمر خلفيات نفسية واجتماعية معقدة، وانعكاسات مستقبلية على الأسرتين، أسرة العائلة وأسرة الزواج «المدبر» من والدة العروس، وهذه الانعكاسات ستكون أثماناً قد يدفعها الجميع.
إذاً، هي ليست حالة استثنائية، ولا عابرة، فظاهرة «عرض العروس»، موجودة، وغالباً ما يستهدف فيها الشاب الأعزب، في مجتمع مصاب بمرض «تسويق الفتاة» للباحثين عن ارتباط، أو حتى لمن لا يبحث أيضاً! بعلم الفتاة أو عدمه، فأولي الأمر أدرى بمن يختارون، والفرص الجيدة «قد لا تتكرر»، ظاهرة فيها من السلبيات ما قد يهدد علاقة الأم بابنتها، أو علاقة الابنة بزوجها المستقبلي... لتكون انعكاساتها أشد خطراً من مجرد تدخل الأم في مجال خارج هامش حدود سلطتها المعهودة والموروثة، ويكفي أن نتذكر جيداً أن الطبيعة البشرية تميل إلى الحرية الذاتية، وليست مع أي نوع من العبودية، ولو كانت عبودية يديرها «قلب الأم وعاطفتها، وحكمتها أحياناً، إذا صدقت».