يكاد مقهى الروضة الدمشقي يكون آخر الأمكنة الشعبية في وسط المدينة، بعدما تحوّلت معظم المقاهي والحانات إلى محالّ تجارية لبيع الأحذية وأجهزة الموبايل ومطاعم الوجبات السريعة. المقهى الذي يتوسّط شارع العابد في حي الصالحية العريق، يقع قبالة مبنى البرلمان تماماً، وهو حسب ما يحلو لروّاده أن يسمّوه «برلمان حقيقي لتبادل الأفكار والشائعات والنميمة السياسية والثقافية» حول فنجان قهوة ونارجيلة
دمشق ـ خليل صويلح
تفتقد دمشق اليوم مقاهيها الشعبية، استيقظت المدينة قبل سنة على هدم «مقهى السفراء» ليتحوّل إلى بنك، فيما يلفظ مقهى «الكمال» أنفاسه الأخيرة، بعدما بِيع ليتحوّل قريباً إلى فندق.
مقهى الروضة الذي تأسس عام 1938، على أشلاء سينما صيفية، يستقطب مئات الرواد من مختلف الشرائح، إذ يمكن تقسيم مساحته الضخمة (نحو750 متراً مربعاً) إلى خرائط متجاورة تبعاً لنوعية الرواد، ففي مدخل المقهى تماماً يحتل العراقي «أبو حالوب» طاولة دائمة، وهي بمثابة سفارة عراقية في المنفى، ذلك أن العراقي الطارئ لا بد أن يتوقف دقائق أمام «أبي حالوب» لسؤاله عن عراقي آخر فقد أخباره، وبالطبع سيجيبه عن مكان هذا الشخص، وأين يقطن، ورقم هاتفه، وفي أي عاصمة أوروبية يعمل، وهل حصل على لجوء أم لا؟ كما وسّع أبو حالوب دائرة نشاطاته لتشمل أخبار المثقفين السوريين الذين يحجزون ركناً خاصاً في المقهى: من يتردد على المقهى ومواعيد حضوره، وموعد قيلولته؟ إضافة إلى خدمة توصيل الرسائل أو الكتب باعتباره «مستودع أمانات» أيضاً. ويحرص أبو حالوب تاريخياً على شراء صحيفتين يوميتين، واحدة محلية «تشرين»، وأخرى عربية هي «السفير»، ولم يغيّر هذه العادة منذ نحو ربع قرن، تاريخ مجيئه دمشق من موسكو حيث درس فنون الطباعة.
في ركن آخر، يجتمع الفنانون السوريون حول طاولة زهر، وأبرز هؤلاء جمال سليمان وعباس النوري. أما الفنانون الشباب، فيتجهون إلى ركن في الداخل، وهو ركن مختلط، بعدما غزته ممثلات شابات وصحافيات وكاتبات سيناريو حالمات بالشهرة. ولعل مثل هذا الغزو الأنثوي، منح المقهى بريقاً خاصاً.
يمكن اكتشاف موائد العراقيين بسهولة: من نبرة الصوت العالية والشاي المخدّر، وإلقاء التحية بصخب. كان هذا المقهى ملتقى لعراقيي المعارضة قبل الاحتلال الأميركي للعراق، أما اليوم، فهو خليط من أتباع النظام السابق والمنفيين القدامى. يتوضّح ذلك من طبيعة النقاش أولاً، وسحنة الوجه وعلامات الثراء أو الفقر.
المكان نفسه شهد تاريخياً سجالات سياسية بين السوريين أنفسهم، وبين طاولاته كانت تُؤلّف وزارات، وتُوقع بيانات، وصولاً إلى سجالات «ربيع دمشق» مطلع الألفية الثالثة، قبل أن تتلاشى تماماً النقاشات بشأن أهميّة «المجتمع المدني» وتفعيله تحت ضغط الرقابة السرّية.
مقهى الروضة مكان مفضّل لمراسلي القنوات الفضائية، إذ سيجدون بسهولة معظم السياسيين والمفكرين والمثقفين، ولا بد أن يحصل أحدهم على ضالته في فضاء هذا المكان، وعندما تنبّهت إدارة المقهى إلى خطورة الأمر، منعت التصوير إلا بإذن رسمي من وزارة الإعلام أو الجهات المختصة.
600 كرسي من الخيزران، تشهد يومياً مئات الوجوه، في حوارات صاخبة، وجلسات تأمّل، ومشاريع كتابة، وحكايات عاطفية صامتة، وأفكار أفلام ومسلسلات تلفزيونية، وحوارات مع فنانين وتصوير مع المعجبين.
كان المقهى مكاناً لمثقفي الهامش، أولئك الذين هجروا مقهى «الهافانا» بعدما صار من فئة الخمس نجوم، لكن ندرة الأمكنة الشعبية قادت معظم المثقفين السوريين إلى «الروضة»، وصار للتقليديين ركن، وللحداثيين ركن آخر، في سجالات تمتد من السياسة والشعر والرواية الجديدة والتفكيك، إلى تأمل سراويل الجينز.
«عادل» بائع الصحف في مدخل المقهى يقوّم روّاد المقهى وفقاً لنوعية الصحيفة التي يبتاعها الزبون، فقارئ «الحياة» لا يتعاطى مع «الديار»، وقارئ « السفير» ، تحوّل إلى قراءة «الأخبار»، أما قرّاء الصحف المحلية، فيهتمون بالشأن الداخلي وغلاء المعيشة. تجد في المقهى وزراء سابقين ومديرين عامين أحيلوا على التقاعد، وها هي الحياة بالنسبة إليهم تتحول إلى شبكة كلمات متقاطعة في الجريدة، أو رقعة شطرنج في لعبة خاسرة. أما الشباب الجدد، فيتحلّقون حول «ورق الشدة» في مبارزات صاخبة، تشير بشكل ما إلى ارتفاع نسبة البطالة في البلد.
أدونيس في إطلالاته المتباعدة، يفضّل «نفس أرجيلة» في هذا المكان الرحب، ومحاورة الشعراء الشباب، وقد عبرت هذا المقهى، منذ الخمسينيات، إلى اليوم عشرات الشخصيات المشهورة: صدّام حسين الهارب إلى سوريا بعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، ومظفّر النواب الهارب من صدّام حسين... إلى سعدي يوسف، وجواد الأسدي، وجبر علوان.
جمالية هذا المكان، لم تمنع تذمّر الزبائن من ارتفاع الأسعار فيه بما لا يتناسب مع طبيعة المكان الشعبي. هكذا ألغت الإدارة الجديدة فنجان القهوة واستبدلته بكأس، وكوب الشاي تحوّل إلى حجم كبير، إضافة إلى زجاجة ماء معدنية إجبارية، أما شاشة «البلازما» المستحدثة، فهي لاستقطاب الشباب من عشاق مباريات كرة القدم.
المصوّر الفوتوغرافي نديم آدو، انتبه إلى أهمية هذا المقهى كمكان يجمع بين جدرانه جميع شرائح المجتمع السوري، فقرر إقامة معرض كامل عن الحياة اليومية فيه، منذ الصباح الباكر إلى آخر الليل، متتبّعاً حركة الروّاد وانفعالاتهم وصمتهم وأعقاب السجائر المتراكمة في المنافض، وخلاء الكراسي من أصحابها آخر الليل. يقول نديم إن «المعرض أرشيف ليوم كامل في المقهى، من السادسة صباحاً حتى الثانية بعد منتصف الليل موعد إغلاق المقهى أبوابه»...


سياحة ثقافيةالأهم أن مقهى الروضة هو «محطة إجبارية» بالنسبة إلى زوار دمشق للتعرف على أحوال المدينة «الثقافية»