الأخطاء الطبية غير مميتة... دائماًأحمد محسن
أبو خليل (55 عاماً) مصاب بأمراض في القلب. يعمل في ورشة للحدادة، والمدخول الذي يجنيه لا يكاد يكفي شراء الأدوية والطعام. عندما يشتدّ عليه المرض كان يجد دوماً من يقف إلى جانبه، فيؤجل دفع أتعاب الأطباء ريثما يتمكن من ذلك: الأطباء يتفهمون الوضع الاقتصادي، كان يعتقد ذلك.
لم تستمرّ الأمور طويلاً على هذا النحو. يذكر جيداً شهر أيلول 2007، عندما تدهور وضعه الصحي وفاجأه طبيب «قوي» بجملة كرّرها مرتين: «إذا كنت لا تملك المال فلا تأتِ». يذكر أبو خليل أن نبرة الصوت كانت أشد إيلاماً من الجملة نفسها.
الرجل الخمسيني تلقى مساعدة من أحد الأحزاب السياسية لمتابعة علاجه. يفرك يديه قائلاً بأسى: «لم أمدّ يدي إلى أحد يوماً، لكنه القلب.. ولا يحتمل الانتظار»، يقول مكرّراً اسم الطبيب طالباً أن نذكره لأنه يعتقد أن القانون لا يتيح له رفع دعوى ضده «لعلّه إذا قرأ الخبر في الصحف سيخجل من نفسه».

حلول بديلة

حدّدت نقابة الأطباء الحدّ الأدنى من أتعاب الطبيب بعشرين ألف ليرة لغير الاختصاصي وثلاثين ألفاً للاختصاصي، وتُرك الحد الأقصى لضمير الأطباء... وأصحاب المستشفيات الذين أوصلوا قيمة الفاتورة إلى أسعار خيالية. هذا ما يدفع بكثيرين إلى البحث عن حلول بديلة، كما حدث مع حمزة (23 عاماً) الذي زار أحد الأطباء «أصحاب السمعة الجيدة»، ومنذ ذلك الوقت بدأ الشاب، وأهله، الاعتماد على الصيدلي للهروب من قيمة «المعاينة» المرتفعة وبالتالي «المراجعة»، بعدما دفع «خمسين ألفاً في خمس دقائق».
الحالة منتشرة في أوساط الطبقات غير الميسورة، ويجري التعامل معها بطبيعية من جانب عدد كبير من الصيادلة، غير المخّولين وصف الدواء، بل شرح آلية استعماله بناءً على وصفة مكتوبة من الطبيب، وارتجال بعضهم يسبب تأزماً في المرض ومضاعفات سلبية.
الصيدلي ليس الخيار الوحيد، هناك أمكنة أخرى يلجأ إليها المواطن وتسهم وسائل الإعلام في تزكيتها، كالطب البديل أو طب الأعشاب، علماً أن القانون يفترض أن يعاقب ممارسي الأخيرة على أنها عمل طبي أو صيدلي، كما تجدر الإشارة إلى ضرورة التفرقة بين الصيدلي وبين بائع الأدوية، فالأول يملك إجازة جامعية بينما الثاني مجرد موظف يتواجد في كثير من الصيدليات غير الخاضعة للتفتيش والمراقبة، لكن الناس تعرفه على أنه «صيدلي»!.

طوارئ... مميتة!

تمتد الفوضى من الأطباء والصيادلة لتطال الصرح الطبي الأكبر: المستشفى. هناك يسمح اختلاف مستويات المستشفيات لبعض الأطباء بـ«التلاعب» بالسعر. هكذا اكتشف أبو مروان (49 عاماً) أن الطبيب عينه الذي يتقاضى منه 100$ في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، يتلقى مبلغاً أقل من هذا بكثير في مستشفى آخر. لا تقف الأمور عند هذا الحد فالطبيب يكون منضبطاً في المستشفى الأول، بينما «تتسم مواعيده بالفوضى» في المستشفى الثاني، أما فيما يتعّلق بالعمليات التي تتحمل نفقتها وزارة الصحة، فيشتكي من أزمة لبنانية تاريخية في هذا الصدد: «الواسطة».
منال حيدر (32 عاماً) عانت طويلاً أزمة في الجيوب الأنفية ولزم الأمر إجراء عملية جراحية سريعة، لكن طبيب الوزارة في أحد المستشفيات أجّل العملية 4 أشهر، خففت إلى شهرين بعد تدخل أحدهم. منال تعترف بأن المشكلة ليست في المستشفى نفسه «بل في تركيبة الوضع الصحي، حيث لأطباء الوزارة حساباتهم المستقاة من التركيبة اللبنانية أساساً».
يتفاقم الأمر عندما يلجأ المريض إلى الطوارئ، حيث لا يستقبل أيّ كان حتى دفع المبالغ المطلوبة، كما حدث مع بسّام (34 عاماً) من الجالية السورية. منع من إدخال ابنه إلى العناية الفائقة رغم سوء وضعه الصحي: «طلبوا 800 ألف ليرة ولم أقدر على أن أدفع إلا مئة». تعّرض بسّام لما يشبه البازار، فطلبت منه عاملة الاستقبال دفع 400 ألف حاول جاهداً تأمينها ولم يستطع في ذلك اليوم أن يجمع أكثر من مئة ألف. في طريق العودة خائباً توفي ابنه ياسر ذو السنوات الأربع. تعلق دمعة في عيني الأب ويقول: «ربما كان يجب أن أعالجه في بلدي».
سهى طفلة في الثانية من عمرها، لا تختلف حالتها عن حالة ياسر كثيراً، إذا استطاع أهلها تخطي «البازار المادي» مع إدارة المستشفى، ورغم ذلك لم تجر الأمور على ما يرام. أدخلت أحد المستشفيات في حالةٍ طارئة، وفي اليوم التالي أغلقت عينيها إلى الأبد. بعد متابعة طبية لأسباب الوفاة تبّين أن السوائل سحبت من جسدها نتيجة خطأٍ طبي مميت. قدّم الأهل آنذاك (2006) شكوى إلى النقابة، لا تزال قيد الأخذ والرد حتى الآن.

معّرضون للخطأ... وللعقاب

لا ينفي نقيب الأطباء البروفسور جورج أوفتيموس حصول أعمال مسيئة للطب اللبناني إلا إنّه لفت النظر إلى آلية قانونية لمعاقبتهمإ إذ إنه يحق لكل مواطن التقّدم بشكوى إلى نقابة الأطباء، تكّلف رسوم تسجيل الشكوى 000 50 ليرة، وهي تحال إلى لجنة التحقيقات الصحية، فيستجوب الطبيب والمدّعي وترفع الخلاصة إلى مجلس النقابة. قد تقتصر النتائج على توجيه تنبيه أو لوم إلى الطبيب، أو تتسع لتصل إلى إيقافه المؤقت أو النهائي عن مزاولة المهنة.
ويذكر أوفتيموس أنه منذ عام 1997 حتى عام 2006، قدّمت 980 شكوى، أحيل 176 منها إلى المجلس التأديبي في النقابة، وانتهت بإيقاف 38 طبيباً لفترات محدودة، ومنع اثنين منهم من مزاولة الطب نهائياً. تقلص عدد الشكاوى في 2007 إلى 35، ولم تؤدّ التحقيقات فيها إلى نتائج خطيرة.
كما يلفت إلى أن النقابة قدمت مشروعاً متكاملاً لـ«تثقيف الأطباء» يفرض عليهم الحصول على نسبة معينة من النقاط (150 نقطة كل خمس سنوات) لتجديد رخصة مزاولة المهنة كما يحصل في «الدول المتقدمة»، إلا أن القانون انتظر وصول الرئيس إلى القصر حين إعداده، ولا يزال ينتظر انتهاء الأزمات السياسية الأخرى.. التي لا تنتهي.


صيدلي يا صيدلي