ريما يونسهو الموت إذاً. هو هادم اللذات وسارق الأحبّة. هو الغصّة التي تخنقنا. نعق الغراب فجاء الخبر صاعقاً. محمود درويش رحل حيث ترحل الأرواح. عندما يصعب على الجسد أن يحملنا، تهرب الروح وتبحث عن مكان آخر كي يستنزفها من جديد. عندما يضيق بنا التراب نرحل منه إليه لنبدأ من جديد رحلة البحث عن أشياء فقدناها وربما وجدناها ساعة الالتحام وربما نزداد تيهاً. هو الموت يمتطي جواد السرعة ويسقط الفارس المغوار ويترك الحصان وحيداً.
هو الموت يصفع زهر اللوز فيخر صريعاً مبعثراً. هو الموت ينحني في حضرة الغياب فتخرج الفراشة من شرنقتها بعد اكتمالها بأبهى الصور، وترسم يوميات الحزن العادي وترقص رقصتها الأخيره وترحل، تاركة المكان فارغاً، بارداً، يضجّ بالحنين.
منذ عام، بعد الحرب الطاحنة، قدمت إلينا رغم المخاوف الأمنية من الانفجارات الداخلية. أتيت لتنشر السلام بيننا وهو الذي تفقده أنت أيضاً، لكنك آثرت أن تأتي وتتمنى لنا السلام والأمن. كانت المرة الأولى التى أراك فيها من دون شاشات عملاقة أو غلاف كتاب أو مجلة. كنت أمامي بأبعادك الثلاثة كائناً يضج بالحياة والحركة.
هناك داخل القاعة أشرقت كما لم أعهدك سابقاً. كنت تضجّ بالتعب والحنين، كنت تقرأ روحك علينا فتسرق منا أرواحنا لعالمك الموجع. قرأت لنا نص الحنين من كتابك في «حضرة الغياب». لم أشعر بالحضور وكأنني كنت الوحيدة هناك وأنا المعنية الوحيدة بكل ما تقول.
أذكر جيداً هلوستي عندما قفزت بين الجموع وأنا أحمل ديوانك كي أحصل على توقيع منك، وعندما وصلت قلت لك عاشقة درويش رددت مبتسماً الله يخليكِ. وقتها لم أشعر بما قلت، كنت أقف أمام شخصية أسطورية قدمت من الخيال واعتصرت دم القلب وكتبت بالرصاص. كنت أقف أمام نرجسة وتفاحة تغري قارئها بالجوع أكثر وأكثر.
نام أنكيدو وسقط الذراع. أنا مبعثرة بين أوراق هنا وأخرى هناك، تارة أصرخ أنا عربي، وتارة أبكي محمد الدرة، وطوراً أحارب بعابرين في كلام عابر، وأسير ببطء بين قرويين من دون سوء، وأعتصر الحائط وأكسر عقرب الساعة مع شولمت التي انتظرت صديقها الذي لم يأتِ لأنه رحل، وأتوه بين ثنايا «سرير الغريبة».
رحل درويش بعد صراع مرير مع الغربة. رحل بعيداً عن وطنه. ربما الآن يشعر بالأمان ويرى القدس ويركض بين أروقة البروة، يعيد ذكريات الطفولة التي آثرت البقاء هناك كي يعود إليها يوماً، وها هو عاد ليقاوم من دون جسد.
فقط رنين كلماته تقطع قسوة الجرح، وتنبئ بأن الشاعر لا يموت، فهو يفرغ نفسه على صفحات بيضاء، يرسمها كما يشاء. صفحات تستنزف الخيال والواقع فتصبح كصوت الناي مؤلمة شجية عذبه أبدية.
لماذا رحلت يا درويش؟ أشعر باليتم. غيابك نكبة أخرى تضاف لتاريخ نكباتنا. درويش أنت معنا حتى بحضور الغياب. فنحن الغياب وأنت الحضور. نحن البندقية وأنت الرصاص. نحن الحنجرة وأنت الصوت.
من سيكتبنا بعد الآن؟ رحلت يا درويش وتركتنا خائفين، نفتش عن الدفء بين الكلمات فنرتشف وجودك بغصة كبرى وألم قاتل. فلك الأمان حيث أنت.