لم يستسلم المربي حبيب جابر يوماً للضجر؛ كلما ضاقت مساحات الحوار من حوله أو في الأندية الثقافية التي أسسها أو أدارها، يلجأ إلى الكتب والمخطوطات... ولأن الكتابة أفضل من «الخيبات» لا مانع من تذكّر خبرة العمر في المهنة والنضال السياسي
كامل جابر

ينكبّ المربي الثمانيني حبيب جابر، اليوم، على كتابة مذكراته في التعليم والعمل السياسي والثقافي، بدءاً من «الكتّاب» الذي تعلّم فيه على يد الشيخ عبد الله مروة، مروراً بتفاصيل الدراسة والعائلة والتدريس واهتدائه إلى العمل الحزبي. فقد كان من الشيوعيين الأوائل بعدما تتلمذ، هو ومجموعة من الأصحاب وأتراب الدراسة، على يد السيد جعفر الأمين، حبيب طه وسامي صباح وذلك في عام 1943 بعد تأسيس الحزب الشيوعي في مدينة النبطية.
تأتي هذه المذكرات بعد عمل دؤوب قام به جابر محققاً في سلسلة من مخطوطات جبل عامل وكتب الشعر، بدأها برسالة الطيف، من القرن السادس الهجري، لعلي بن موسى الأربلي لتكون فاتحة شهيته على الغوص في الأوراق «المهترئة والعفنة، والتحقيق في مفرداتها، ونفض الغبار عن أسطرها وكلماتها، لتصير لاحقاً كتاباً جاهزاً للطبع»، ولتكون النتيجة ستة كتب محقّقة ومخطوطتين جاهزتين للطبع، وخصوصاً بعدما برهنت تجربة الحياة له «أن الكتب والمخطوطات أفضل ألف مرة من الخيبات السياسية والاجتماعية، التي مُنينا بها على مدى عمرنا السياسي وفي الوظيفة والتعليم».
جنوح الشاب اليساري، لم يجعل حياته مدرّساً سهلة، بل كان دائماً مبعَداً، مقصيّاً أو معتقَلاً. لم يهدأ في مدرسة أكثر من سنة أو اثنتين. ومنذ البداية جاء التعيين الأول، بعد تخرّجه من دارة المعلمين والمعلمات عام 1947، إبعادياًً «في مدينة بعلبك التي تبعد عن النبطية عشرات الكيلومترات». عاد إلى النبطية بعد سنة، ونقل منها، بعد سنة أيضاً، بشكل شبه تأديبي إلى مدرسة القصيبة قبل أن يعود إلى النبطية بعد سنتين. وفي عام 1952 نقل تأديبياً إلى دير الأحمر بعد توقيفه ستة أشهر عن التعليم، ثم نقل في السنة التالية إلى مدرسة بعلبك ثانية، وفي عام 1956 إلى مدرسة البسطة التحتا الرسمية.
هذا الواقع، يضاف إليه ضيق المساحة المذهبية و«طول يد الكتائبيين»، دفعه إلى اختيار الانضمام إلى البعثة اللبنانية التي يمّمت وجهها شطر المملكة المغربية «وكان معي من النبطية الزميل والصديق الراحل عبد الحسين حامد. عينت أنا في «الجديدة» وهو، بعيداً عني نحو ألف كيلومتر في «أغادير»». بعد سنة انتقل إلى الدار البيضاء، «حيث علّمت اللغة العربية والقرآن بدلاً من مادة تخصصي، اللغة الفرنسية؛ وعدت بعد سنتين إلى مسقط رأسي لأتنقل مجدداً بين مدارسها». من مدرسة التكميلية إلى أول مدرسة نموذجية في النبطية، التي صار مديراً لها مدة 12 سنة مطلع السبعينيات. بيد أنه صُرف، في السنة الأولى، مع 308 معلمين من رفاقه، فنفذوا اعتصامات امتدّت ستة أشهر في كلية التربية حتى تراجعت الدولة عن قراراتها.
اعتقل جابر مرتين، يعدّهما بمثابة وسامين نالهما من الدولة اللبنانية مثّلا وصمة عار على جبينها؛ المرة الأولى خلال إضراب المعلمين عام 1954، زجّ خلالها مع مجموعة من أترابه 8 أيام في سجن القلعة في صيدا. ثم أُخلي عنه بسند إقامة بعد منعه من التعليم لستة أشهر. كذلك حكم عليه بالحبس مدة شهر مع وقف التنفيذ، وغرّم جزائياً بعشر ليرات لبنانية. المرة الثانية عشية الانتخابات النيابية عام 1968 حيث اقتيد مخفوراً مع عدد من اليساريين إلى سجن ثكنة عين الحلوة قرب صيدا.
لكن «بعد كلّ هذا النضال المطلبي، و35 عاماً من التدريس، والإبعاد وأيام الاعتقال، والتفاني في تعزيز الحياة الاجتماعية والثقافية وتأسيس الأندية والجمعيات، لم أشعر بأي نتيجة عند من عبروا في صفوفي أو درّستهم أو عاشرتهم». فقد ترشح جابر إلى المجلس البلدي في مدينة النبطية عام 1995 «إلا أن أصوات الناس ذهبت نحو وجوه لم يعرفوها أو يألفوها. لو أن الذين علّمتهم فقط، وعلّمت أولياءهم، منحوني أصواتهم لكنت الأول في النتائج، إلا أن الناس يتناسون أمام مصالحهم الآنية، لذلك لم أجد صديقاً في هذه الأيام غير الكتاب؛ رحت أطالع بكثافة، أكثر من عشر ساعات يومياً في معظم الأحيان، عائداً إلى المراجع ومتون الكتب من أجل تحقيق المخطوطات».
يتحسّر حبيب جابر على منابر النبطية الثقافية والاجتماعية «التي كانت تدخل في سبات عميق»، علماً بأن النبطية في ذلك الوقت كانت زاخرة بحشد كبير من المراجع الفكرية والثقافية والدينية، المتنافسة نحو ثقافة فكرية أرقى: «شعرت وكأن للنبطية «قرينة» أندية فلا تدوم، لذلك سعيت بكل جهدي لتأسيس نادي الشقيف». وُلِد الأخير مع فكرة تأسيس فرقة للرقص الشعبي، مع مجموعة من أصحابه: عاطف الصيداوي، حسّان كحيل، محمد جميل سلوم، كمال بدر الدين وشادية زيتون. ويوضح أن اسمه لم يرد بين المؤسسين «بسبب اللعنة السياسية عليه التي جعلته على اللائحة السوداء عند الدولة». ولأن المنطقة معروفة بمنطقة الشقيف، «أطلقت عليه هذه التسمية، وجعلت مقرّه أولاً بين بيتي وبيت حسان كحيل، ثم في منزل توفيق فخر الدين، فإلى بناية أنيس فهد، ليحلّق النادي عالياً ونبني له صرحاً بإسهامات أموال المغتربين من أبناء النبطية والجنوب».
من أجل نادي الشقيف، ناضل حبيب جابر «بعد دخول النادي في «الكوما» أكثر من مرة، حاربنا كثيراً من أجله حتى صودرت هويته لاحقاً وبخطة منظمة ومدروسة من قوى الأمر الواقع». ومن رئاسة نادي الشقيف، إلى رئاسة فرع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية، إلى عضوية مجلس النجدة الشعبية اللبنانية، إلى وإلى... وكلما شعر حبيب جابر بالتعب، جعل لنفسه هدنة تزيد في حماسته لدخول متون المخطوطات والكتب، فأسس «صومعته» عند مطلع حي البياض، قريبة من سكنه حيث ينكبّ على كتابة مذكراته، من الألف حتى الياء مستشهداً بالأسماء والتواريخ والأحداث، تحت عنوان «حصاد الثمانين». ولزوجته غفران سعيد جواد، التي اقترن بها عام 1953 حيّز من هذه المذكرات، وكذلك لأبنائهما: رحاب وسلام وبهيجة وعمار وبشار الذين امتهن معظمهم مهنة الوالد، التعليم.
يحزن حبيب جابر لتدنّي نسبة الاهتمام بالكتب والمخطوطات، ولا سيما العاملية «التي تزخر بها المكتبات، ولولا قصر اليد المادي لطبعت العشرات منها. لقد وصلنا إلى زمن رديء سقطت فيه القيم، أما الثقافة والقراءة والكتب، فهي صارت تقريباً، في قعر الحضيض».


القاووش رقم 3

عندما أعلنت الهيئة التعليمية في لبنان الإضراب الشامل عن العمل عام 1945 استنفرت السلطة كل أجهزتها القمعية واستعملت كل وسائلها الردعية، واعتقلت بعض المعلمين «المحرّضين على الإضراب» برأيها، وزجّتهم في السجون. «أُدخلنا سجن النبطية لليلة واحد، ثم نقلنا إلى سجن القلعة في صيدا، حيث ألقينا في القاووش الرقم 3