اشترت مجموعة عودة ـــ سرادار العقارين المحاذيين للتل الأثري في بيروت. عقاران أرضهما تحوي بالتأكيد آثار بيروت الفينيقية والكنعانية. فماذا سيكون مصير هذه الآثار؟
جوان فرشخ بجالي
قد لا يعني العقاران رقم 1474 (95ـــ01 و96ـــ01) اليوم الكثير بالنسبة لعامة الشعب اللبناني. فهما عقاران في وسط بيروت غرب التلّ الأثري، أي شمال مبنى جريدة «النهار». ولو لم تشترِهما شركة عودة ـــ سردار لبناء مقرّ لها، لبقيا مجهولين. ولكن عملية بيعهما تعيد فتح أبواب المحافظة على تاريخ العاصمة. فكالعادة، أتمّت شركة «سوليدير» العقاريّة عملية البيع من دون أن يكون هناك أي حفريات أثرية على الموقع المحاذي للتلّ الأثري المصنّف موقعاً سياحيّاً لأهمية المكتشفات فيه. فالمنطقة تحوي آثاراً كنعانية من أسوار المدينة ومدخلها القصر (العصر البرونزي 1200ـــ3500 ق. م.) وأخرى فينيقيّة تحوي أيضاً أسواراً منحنية وطرقاً (العصر الحديدي300ـــ1200 ق. م.). إنها إحدى أهم الحقبات في تاريخ العاصمة، وخاصة أنها كانت مجهولة قبل حفريات بيروت التي جرت بين 1992ـــ1998.
وها هي اليوم شركة عودة ـــ سرادار تجد نفسها تملك عقاراً في وسط بيروت يحوي آثاراً دفينة تخبر عن تلك الحقبة. وهنا تكمن المعضلة. ماذا سيكون مصير الآثار التي سيبدأ العلماء بنبشها في الأسابيع المقبلة؟ هل سيعمل الفريق العلمي على إعطاء تقارير تقول بعدم ضرورة المحافظة على الموقع، ويجري بالتالي جرف الآثار ورميها في مكب النورماندي ليستكمل الوطن في ذلك عادة رمي تاريخه في البحر؟ فخلال حفريات بيروت الأثرية أصبح لرمي الآثار أهل اختصاص كانوا يعملون مباشرةً مع شركة «سوليدير» ويعطون التقارير بعدم أهمية الآثار المكتشفة، مما كان «يبرّئ ذمّة» الشركة لدى جرف آثار أكثر من 180 حفرية، والسماح بالتالي لأصحاب العقارات بتشييد أبنيتهم الشاهقة.
فهل ستعاود الكرّة اليوم أم إن الروتين سيتغيّر، وستُعدّ حفرية وادي أبو جميل (حيث عُثر على ميدان سباق الخيل الذي طالبت كل من المديرية العامة للآثار ووزير الثقافة بالمحافظة عليه) سابقةً قد تتكرّر اليوم إذا ما كانت الآثار المكتشفة بالأهمية المتوقعة؟ سؤال يبقى الجواب عنه رهناً بالأثريّ الذي سيستلم الموقع، وبالتقرير الذي سيرفعه إلى المديرية العامة للآثار، التي بدورها سترفعه إلى وزارة الثقافة.
تجدر الإشارة إلى أن أوّل من سلّط الضوء على عملية البيع في وسط بيروت كان رئيس جمعية الإنماء الثقافي والاجتماعي (إنماء) جواد نديم عدره الذي بعث برسائل عدة إلى وزارة الثقافة تنبّه إلى خطورة ما يجري، وضرورة المحافظة على موقع التل الأثري في إطاره الحالي. ورأى عدره بعد استشارة أهل الاختصاص أن العقارين قد يحويان آثار مرفأ بيروت الكنعانية والفينيقية، وذلك ظاهر من انحدار الأرض التي تتوسّطها طريق تعود إلى العصر البرونزي.
طبعاً، يخطط بنك عودة ـــ سرادار لتمويل الحفريات الأثرية في العقار الذي تملّكه. وستبدأ التنقيبات في العقارين. لكن، ما هي خطة العمل لو اكتُشفت فعلاً آثار مهمّة وفريدة لتاريخ العاصمة؟ تساؤل، وإن رآه بعض المسؤولين سابقاً لأوانه، إلا أنّه ضروري لتفادي ما حصل في الماضي القريب حين كانت المحافظة على آثار بيروت أمراً شبه مستحيل أوصل إلى الحالة التي وصلت إليها بيروت: مدينة مقطعة أوصال تاريخها.
أما التساؤل الثاني الذي يطرح: هل يمكن لبنك عودة ولمؤسسه الذي يُعدّ من كبار محبي الآثار والتراث في لبنان ألا يحافظ على تاريخ العاصمة؟ فبنك عودة يملك المجموعة المعروضة في متحف عودة في الأشرفية، ومؤسسة عودة تحاول جاهدة المحافظة على تاريخ مدينة صيدا، وتُعدّ قدوة في عملها في هذا المجال، فهل ستتغير اليوم أولوياتها؟ تساؤل آخر يبقى الجواب عليه رهن القرارات التي ستتخذها الشركة لاحقاً.
طبعاً كان من المستحب أن لا تعرض شركة سوليدير العقاريين للبيع، وأن تضيفهما إلى موقع التل الأثري، على أن يبدأ لاحقاً فريق علمي بالتنقيب في الموقع لإظهار تاريخ بيروت وتكملة حفريات التل الأثري وتحويل الأرض ككل إلى موقع أثري سياحي محافظ على طابعه... ولكن هذه الأصول وطرق العمل العلمية العالمية ليست بالضرورة ما يُعمل به في لبنان.


حفريّات إنقاذ في كل أرجاء العاصمة

من ساحة رياض الصلح إلى تلة الأشرفية، مروراً بالجميزة والصيفي، تسير حفريات الإنقاذ على قدم وساق في كلأ أرجاء العاصمة. فعلماء الآثار من الفريق الذي تعيّنه المديرية العامة للآثار والذي يعمل تحت إشرافها، ينبشون كل يوم المزيد من تاريخ العاصمة الدفين. ففي منطقة الجميزة مثلاً، وفي العقار الذي يواجه كنيسة مار مارون الذي تملكه شركة صيفي كراون، عُثر على حمامات رومانية ضخمة. إنها الرابعة من نوعها في بيروت: فالأولى محافظ عليها ومصنفة موقعاً سياحياً خلف شارع المصارف، أما الثانية فكانت قد اكتُشفت في تسعينيات القرن الماضي في العقار الواقع في أول شارع فوش أمام الجامع العمري، وأزيلت ورميت حجارتها في مكب النورماندي. أما الثالثة، فقد اكتشفت أخيراً في منطقة الصيفي ولا تزال حتى الآن أعمال التنقيب جارية على الموقع، وكان صاحب العقار قد قرر دمج الآثار في حديقة المبنى. وها هي الحمامات الرابعة تظهر في الجميزة. وهذا ما يؤكد أهمية بيروت في الفترة الرومانية ووِسع امتداد المدينة التي لا شك بأن عدد سكانها يتجاوز عشرات الآلاف.
ويشرح أسعد سيف، مسؤول التنقيبات الأثرية في المديرية العامة للآثار، أنّ «العقار يحوي قاعتين من قاعات الحمامات. فهناك القاعة الوسطى للحمامات، المعروفة باسمها اللاتيني Tepidarium، التي كانت صلة الوصل بالقاعات الأخرى، والقاعة ذات الحرارة المرتفعة Caldarium. وكانت أرضية الحمامات مكسوّة بالفسيفساء والرخام الأبيض، ويجري رفعها الآن لاسكتمال الحفريات، كما يجري أيضاً حفر نظام التدفئة المبني من أعمدة طينيّة صغيرة». ويؤكد سيف «أن المشاورات جارية جديّاً مع أصحاب العقار لدمج الآثار المكتشفة داخل الأبنية، وقد حظينا الآن بتأكيد من صاحب العقار أن أرضية الطابق الأرضي ستكون مغطّاة بزجاج يسمح للزائر برؤية الحمامات الرومانية التي سيُعاد وضعها في مكانها بعد تشييد البناء».
أما بالنسبة لحفريات وسط بيروت، ففريق العمل ينقّب في موقعين: الأول هو في حديقة كنيسة مار الياس التابعة لمطرانية الروم الكاثوليك، والثاني في موقف السيارات على ساحة رياض الصلح. ويشرح سيف أن «حفريات كنيسة مار الياس أدت إلى اكتشاف حديقة تعود إلى الفترة الرومانية، ويُعمل حالياً للمحافظة على الآثار في مكانها ودمجها ضمن التصوّر لحديقة كنيسة المطرانية. أما بالنسبة لساحة رياض الصلح، فكانت التنقيبات قد بدأت سنة 2007 وتوقفت بسبب استحالة الوصول إلى الموقع الذي كان ضمن مخيّم المعارضة اللبنانية. ولا تزال الحفريات الأثرية في بدايتها، وكشفت عن الطبقات العليا لاستعمال الموقع الذي يعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.