«دمشق السنة عاصمة ثقافية، لكنها دائماً عاصمة أساسية». هذا ما قاله زياد الرحباني في ختام حفلاته الخمس لجمهور أغدق عليه حباً، بادله الرحباني بسخاء. ما جعل عاصمة الأمويين تستحق لقباً إضافياً «العاصمة العاطفية»
دمشق ـــ ضحى شمس
دسّ الرجل المعشوق نفسه بين الموسيقيين في الباص الذي كان ينقلهم إلى حيث أقام منظمو «دمشق عاصمة ثقافية» حفل عشاء بمناسبة ختام حفلاته التي عاشت العاصمة على وقعها. الوجهة «باب توما». تتحقق «نبوءة» الملصق الضخم على الطرق «زياد في قلب دمشق». هو هنا، جغرافياً وعاطفياً. حارات كانت لسكن الدمشقيين أصبحت استديو ضخماً لتصوير المسلسلات أو تحوّلت بيوتها الرائعة، لمطاعم تسهر على أنغام عود أو بزق. «البيوت التي ما زالت للسكن، نادرة»، يقول مروان عازار الذي ما زال يسكن هنا. يصل الباص المتخم بالموسيقيين منتصف الليل إلى «ساحة القصاع». تلفت نظر زياد، إلى احتمال تكوّن «مظاهرة» خلفه لدى سلوكه الحارات الضيقة. يرد، وقد حشر نفسه في مؤخرة الباص بينك وبين «سلافا» عازف الكلارينيت الأرمني «هلق مين حيعرفنا هون؟». ما إن تطأ قدمه الساحة المكتظة بسيارات التاكسي الصفراء، حتى يهتف شاب، كمن يقرص نفسه ليتأكد: زياد رحباني؟ تلتفت عيون لذكر الاسم. وبلمح البصر ترتفع الموبايلات في ردة فعل «عصرية»، مصوّبة كاميراتها للهدف. تتشكل بسرعة هيصة كبيرة. لكن أحداً لا يجرؤ، للوهلة الأولى، على الاقتراب. لحظة كانت كافية لانزلاق زياد بحركة رشيقة من خلف موقف باص داساً نفسه بين أسراب الموسيقيين بالسموكينغ الأسود، الذين بدوا كجماعات من طائر البطريق تمشي في حواري العاصمة التاريخية.
ما إن يدخل البيت القديم المتحول إلى مطعم حتى تعثر العيون عليه. يتجه الموسيقيون الى درج الطابق الأول المحجوز لهم. تسري كلمة واحدة كالنار في الهشيم: «زياد.. زياد». وإذ بالزبائن ينتصبون جميعا حول طاولاتهم، ممزقين الهواء بتصفيق طويل بدون أي كلمة. يخرج من يحب السوريون مناداته بمجرد «زياد»، من تمويهه غير الناجح بين الموسيقيين. ينحني بابتسامة خجولة لا تنفكّ تسلب قلوبهم، قبل متابعة صعوده. يستنفر المنظمون لإقناع شباب استوعبوا بعد مروره بالساحة، أن «ذاك» كان.. زياد، فلحقوه، أنه ليس باستطاعتهم الدخول. لكن، ما إن يجلس الجميع حتى يتناهى من صحن الدار، صوت غناء انبعث من «كورال» مرتجل لأكثر من مئة زبون، صودف وجودهم الليلة. مغنين بصوت أرادوا إيصاله إلى فوق «أنا مش كافر» ثم «الحالة تعبانة يا ليلى» إلخ. تصل التحية فتتمدد الابتسامة على وجه الرحباني. تطل من عينيه سعادة يموّهها خفراً بمواصلة الحديث مع جاره. يطال انفعال الناس، عازف الترومبون الفرنسي «غي» يضع الكأس من يده ويقول «لدى هذا الرجل شيء لا أستطيع وصفه. الكل يقع في غرامه ببساطة».
وببساطة، كانت دمشق واقعة في غرامه. وكأي عاشقة كانت سعادتها بزيارته بيتها تفوق الوصف. كان ذلك وصالا. عشرة أيام أمضاها زياد الرحباني يتراشق والسوريين بالحب. عمل المنظمون من كل يوم حدثاً: أربعة أنواع من الملصقات وضعوا فيها كلام أغانيه على لسان سوريا: لأول مرة منكون سوا، كيفك أنت؟ إلخ. ثم كان للتشويق بانتظار الموافقة على تمديد حفلة إضافية، ملصقة: «بالنسبة لبكرة شو؟». تأتي الإجابة في ملصق اليوم التالي: «صارت صحيحة الخبرية». بادل زياد المدينة حبها حتى قبل أن يلمسه ميدانياً. أعطى الأولوية للموسيقيين والمغنين السوريين. ست صبايا من أحلى أصوات سوريا «بقيادة» السوبرانو رشا رزق. أربعة وعشرون موسيقياً سورياً. العازف باسل داوود يغنّي مع الرحباني أغنيات عرفت فقط بصوت الاخير. الأولوية في الإطلالات الإعلامية لوسائل الإعلام المحلية: مشاهد من البروفة والحفلة الأخيرة للتلفزيون السوري. مقابلة مع إذاعة محلية. أخرى مع جريدة «تشرين». مقابلة لجريدة حكومية؟ استغراب صامت. القطاع الخاص، خيار المستقبل غير المعلن للسوريين. يعيد سلوك الرحباني النظر بهذا التقييم على ضوء تجربته كلبناني. مؤسسات الدولة بكل ثغراتها، أفضل من عدمه.
حوّل السوريون زيارة الرحباني الأولى إلى لحظة انفعال ممتدة على عشرة أيام. شعور مرهق، لكنه رائع. عناق طويل، تقبيل متواصل. تصوير متواصل. تفهم دنيا الدهان مساعدة د. حنان قصاب حسن و«دينامو» الاحتفالية، التي «منحت» زياد ضاحكة لقب «معاليك»، أن الرحباني لن «يدافع» عن نفسه تجاه هذا الحب. تحاول التقنين ما استطاعت. لا أحد يعرف مدى نجاحها. فهي كالفراشة ليس لرفة جناحها صوت.
شيء ما في شخصية السوريين يشبهه. ما هو؟ تمضي وقتك بالمراقبة لتعثر عليه. تبحث، وأنت تراقب طلاب المعهد العالي للموسيقى متجمعين كالعصافير الصغيرة على أبواب القاعة المغلقة ونوافذها، التي تجري فيها التمارين، متسقطين نوتات متناثرة من وليمة موسيقاه. تبحث، وأنت تصعد درجاً خلف الطالبة الظريفة التي تطوّعت لإرشادك إلى ما يسميه الطلاب هنا «المخبأ السري»، من أجل مشاهدة التمارين: كوة في الطابق الثاني! تخمن هيام حموي، التي أجرت معه مقابلة، أن هذا الشيء هو مزيج من الحنان والشهامة والبساطة، سمة الشخصية السورية الحقيقية. لكنك تظن أن بعض الناس يخرجون أفضل ما فينا. وإن وجود زياد في دمشق العاطفية، أخرج أفضل ما فيها. تماماً كما أن حب السوريين أخرج أفضل ما فيه.
عشرة أيام في دمشق، كانت كل لحظة فيها معلقة على حافة بين البكاء والضحك. الفجر، عودة الفرقة إلى الفندق. نتندر في المصعد على كثافة التصوير خلال الحفلات. يعلق احدهم ضاحكاً أنه لو كان الشخص ينقص ذرة كل مرة يجري تصويره، «لما عدنا بالكثير من زياد إلى بيروت». يفتح باب المصعد وإذ.. بالرحباني أمام المصعد، الرابعة صباحاً، وإلى جانبه وقف شاب مطوقاً كتفه، شاخصاً إلى كاميرا رفيق يقوم مرتبكاً بتصويرهما. يتبادل الشابان مكانهما. يلتفت زياد إلينا وقد ارتسمت على وجهه المرهق ابتسامة قائلاً «ناطرينا الشباب من التسعة، معقول نقللهم لأ؟».
دمشق العاطفية، أبت أن تودّع زياد إلا على طريقتها. رجته، كما فعل آلاف السوريين الذين تجمّعوا نهاية كل حفلة معترضين باصات الفرقة المغادرة للمسرح، بملصق كتب عليه ببساطة: «ما تفل».


قمر

انضمت عناصر الطبيعة في ثاني حفلات زياد الرحباني إلى الناس لإضفاء لمسة استثنائية على أجوائها. هكذا، بدأ خسوف نادر ومرئي لقمر دمشقي مكتمل مع بداية حفلته الثانية. فكانت العيون طوال السهرة تتنقل بين المسرح والسماء، متابعة اختفاء القمر التدريجي إلى أن غاب بنهاية الحفل بالكامل، تاركاً في الساحة «قمراً» وحيداً جلس إلى البيانو وقد تعلّقت به الأبصار والأفئدة. قمر، على جماله، يزعل إن قلت له «يا حلو»