ريمون هنّودلا شك بأن تجميد وثيقة التفاهم ما بين حزب الله وبعض القوى السلفية قد خفّف من حدة التشنج الذي استجدّ في الأوساط السنية. فالعامل السلبي الذي يعتري هذه الأنواع من التفاهمات، هو رزوحها تحت نير المذهبية والطائفية. وأعتذر سلفاً من جميع علماء الدين ورجال الدين الذين أحترم آراءهم وأجلّها كل الإجلال، لكن من المؤكد أن تجميد الوثيقة سيعود بالفائدة على حزب الله الذي يمثّل اليوم رأس حربة المقاومة وعمودها الفقري في العالم العربي. المطلوب من حزب الله أن لا يتوغّل في الزواريب السياسية اللبنانية الضيقة، لكي لا ينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى نسج اتفاقات قد لا تعود باليسر على المقاومة التي ينبغي أن تتصدى لكل مَن يحاول إيقاعها في وحول مذهبية، ولكل مَن يحاول أن يزرع في جسدها أدران طائفية فئوية، لكي تبقى جهودها منصبّة على الاستمرار بالدفاع عن حياض الوطن، من خلال صد كل المؤامرات الصهيونية التي تقرع باب هذا الوطن الحبيب من خلال بوابته الجنوبية. فعلى المقاومة أن تبقى بعيدة كل البعد عن المتاهات الداخلية الصبيانية في ظل التهديدات الصهيونية التي ما زالت ترخي بظلالها على البلاد والعباد.
وكل عربي لبناني حر شريف يطالب المقاومة بأن تبقى صامدة وقوية ومحتفظة بترسانتها المسلحة الشريفة، ليس فقط عند انتهاء تحرير مزارع شبعا، بل حتى نهاية الصراع العربي ـــ الإسرائيلي برمته، مع ميلي الشخصي إلى أن تتحوّل المقاومة الإسلامية إلى مقاومة وطنية تتضافر فيها جهود الشباب اليساري وعطاءاته مع الشباب المسلم.
لم يكن من داع لإبرام مثل هذه الاتفاقات، وجيّد أنها جُمّدت، مع أنني العالم كل العلم والمدرك كل الإدراك أن مسؤولية أحداث بيروت (أيار 2008) لم تكن لتتحمّل المقاومة حدوثها، بل إن فريق 14 شباط كان المسؤول المباشر عن حدوثها من خلال لجوئه إلى استفزاز المقاومة عبر المحاولات اليائسة البائسة لإلغائها وإلغاء دورها. (قضية المطار وشبكة الاتصالات).
وجاء اتفاق الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان ليكرّسا انتصار المقاومة على المؤامرة التي حيكت ضدها، مع التحفّظ على كل اتفاق يُعقد خارج لبنان. إنما العامل السلبي أيضاً لهذا التفاهم جُمّد أم لم يجمَّد، وبما أن الموضوع كما يقال بالعامية «صفّا مشموس» فقد يتسبب ذلك بنقزة أو ردة فعل أو أقله تساؤلات في الأوساط المسيحية، وأقول «أوساط» لأنني أشمئزّ وأمتعض من بدعة وهرطقة شيء اسمه «شارع مسيحي وشارع مسلم»، وخاصة أن الكثيرين يسألون، على سبيل المثال: لماذا لا توقَّع وثيقة تفاهم بين التيار الوطني الحر وتيار المردة من جهة والقوات اللبنانية والكتائب من جهة أخرى؟
أظنه تساؤلاً منطقياً حسب الأوساط المسيحية «اليمينية»، وهو على كلٍّ تتداوله الألسن. وهنا على الأوساط المسيحية التمسك بأهداب الوعي والإدراك، فليس المطلوب الرد بالطريقة نفسها وبالسلاح عينه، ليس المطلوب الرد على الاصطفاف بالاصطفاف، بل المطلوب من المسيحيين الارتقاء إلى درجات تحررية تقدمية مرموقة، والتذكر أن رجالاتهم على مر التاريخ كانوا من رواد الحركات التحررية العربية وحتى العالمية، من أوجين الدبس المفكر الاشتراكي الأميركي من أصل لبناني، وهو الذي قاد أكبر التظاهرات العمالية في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى شبلي الشميل ابن كفرشيما الذي بذل الغالي والرخيص في بناء مداميك حرية الرأي وحرية النقد في الحقبة نفسها، إلى فرح أنطون ابن طرابلس وهو أول مَن بشّر بالاشتراكية في لبنان قبل انتصار تلك الثورة في روسيا نفسها بسنوات عدة، إلى فؤاد الشمالي الكسرواني ابن بلدة سهيلة مؤسس الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924، إلى أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى الرئيس فؤاد شهاب الذي كان متفاعلاً مع محيطه العربي وخُوّن وضُربَ من بيت أبيه ومات من حزنه الشديد.
وما نسمعه اليوم عن إحياء ما يسمى باللقاء الوطني المسيحي الذي انبثق مما يسمى أيضاً بالطروحات والثوابت المسيحية، فهي لا تقود في النهاية إلا إلى مزيد من العزلة والتقوقع والانطواء، شأنها شأن أي اصطفاف إسلامي مقابل، وهي تعيدنا إلى حد كبير بالذاكرة إلى الخطاب المسيحي الذي كان سائداً في أواسط سبعينيات القرن الماضي حتى أوائل ثمانينياته. فعلى المسيحيين الحذر الشديد من الوقوع في مهاوي مستنقع الانزواء والتزمّت، وعليهم بناء لبنان الحديث، أي الجمهورية الثانية المجردة من كل أنواع المحاصصات المذهبية والطائفية، وبناء لبنان الحديث يحتّم على جميع الشرائح أن تكون على طاولة حوار واحدة داخل لبنان، لأن بناء لبنان الحديث القوي لا يتم في باريس وواشنطن والطائف وطهران والدوحة والفاتيكان. وليكن أمر اليوم وغداً وبعد غد: إلى الأمام سرّ نحو صحوةٍ من أجل التغيير والإصلاح.