محمد خواجه *مثّلت عملية تحرير الأسرى اللبنانيين، و«الوعد الدولي» بإنجاز الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا، و«تجييرها» إلى وصاية الأمم المتحدة، عامل تشجيع لبعض القوى اللبنانية الدائرة في الفلك الأميركي، التي سبق وربطت بين هذين الملفين ومستقبل المقاومة.
وإذا كانت موازين القوى غير مؤاتية لطروحات مثل إنهاء المقاومة ونزع سلاحها، فستكتفي هذه القوى بالعمل على تقييد حركتها وشل قدرتها في الوقت الحاضر. لا شك في أن هذه المواقف ستصطدم برأي شرائح كبيرة مؤيدة للمقاومة؛ وقد يتحول الأمر إلى نقطة خلاف إضافية بين اللبنانيين، تزيد من تصدّع وحدتهم المهتزة أصلاً. بهذا تكون الولايات المتحدة قد نجحت بإيقاعهم في الكمين الذي نصبته لهم، وحوّلت نصرهم على إسرائيل إلى هزيمة. من أجل تفادي الشرك الأميركي المنصوب، ما الذي يجب فعله؟
نطرح بضعة الأسئلة قد توفر الإجابة عنها مادة للنقاش الهادئ والرزين، منها: أيبقى من مبرر لوجود المقاومة، بعد تحرير الأرض؟ ما هي طبيعة العدو الرابض على تخومنا الجنوبية؟ هل هذه الطبيعة العدوانية مرتبطة بوجود المقاومة، أم هي سابقة على ذلك؟ إذا سرحت المقاومة، أيكفي اتفاق الهدنة والوعود الدولية، لدرء الشر الإسرائيلي عن لبنان؟ وهل الجيش اللبناني، بوضعه الراهن، قادر وحده على حماية حدودنا؟ بعد إنجاز التحرير، أتصبح المقاومة عبئاً على لبنان وتطوره؟ أم هي ضرورة لازمة لحمايته في محيط مضطرب؟
لا بدّ من العودة السريعة إلى مرحلة ما قبل قيام الدولة الصهيونة؛ ففي عام 1923، أعيد ترسيم الحدود اللبنانية الفلسطينية، فضُمّ أكثر من 20 قرية لبنانية إلى فلسطين، بتواطؤ من سلطتي الانتداب الفرنسي والإنكليزي مع الحركة الصهيونية. وفي عام 1948، اجتاحت العصابات اليهودية تلك القرى، وارتكبت مجزرة بحق أهالي بلدة صلحا اللبنانية، قبل إلحاقها بإسرائيل. وبعد مضيّ أشهر على احتلال فلسطين، نفّذت القوات الإسرئيلية مذبحة في بلدة حولا الحدودية (تشرين الأول 1948) أودت بحياة ما يقارب مئة شهيد من أبنائها. فمثّلت تلك المجزرة باكورة اعتداءاتها على لبنان. بعد حرب حزيران 1967، ضمت إسرائيل آلاف الدونمات من أراضي بلدات عديسة وعيترون ومركبا وغيرها، بما فيها مركز العباد الحدودي، إلى فلسطين المحتلة. في عام 1968 ارتكب الجيش الإسرائيلي جريمة في مطار بيروت الدولي؛ حين أقدمت قوة من الكومندوس على تفجير 13 طائرة مدنية من أسطول شركة الشرق الأوسط الرابض على مدارجه. بعدها كرّت سبحة الاعتداءات والمجازر الإسرائيلية بحق اللبنانيين، من دون أن تواجه بمقاومة حقيقية من جانب الدولة اللبنانية.
هذه «العيّنة» تدل على أن العدوانية الإسرائيلية سابقة لوجود كل «المقاومات»، بما فيها المقاومة الفلسطينية. فالدولة ـــ الثكنة المشادة على أرض فلسطين المحتلة، ينتظم تفكيرها وفق معايير القوة، ولا تعير الاتفاقات الدولية أهمية، أو تردعها «النوايا الحسنة» للسيدة كوندي وأقرانها في الولايات المتحدة والغرب. وبما أن المقاومة اللبنانية أثبتت جدواها في حقبة التحرير، قبل عام 2000، وفي ما بعد قدرتها على التصدي للعدوان في صيف 2006، نعتقد أن الحاجة إليها غير مرتبطة بزوال الاحتلال أو بقائه، بل باستمرارية الصراع مع ذلك الكيان. مع الإقرار بتبدل وظيفة المقاومة على الصعيدين التقني والعملاني، بعد إنجاز التحرير الكامل؛ ليتحول سلاحها إلى سلاح ردعي بحت، بما يعني عدم تنفيذ أي عمل هجومي ضد العدو الإسرائيلي، إلا في حال ارتكابه عملاً عدوانياً بحق اللبنانيين، بالتنسيق والتكامل مع الجيش اللبناني.
من ناحية أخرى، من يضمن إذا نزع سلاح المقاومة، ألا تعود إسرائيل إلى سابق عهدها، وتمارس الاعتدءات والاجتياحات، والانتقام من رجال المقاومة. من دون التشكيك بقدرة الجيش اللبناني وبسالته، فهو غير قادر على مواجهة جيش متطور، يمتلك إمكانات هائلة مثل الجيش الإسرائيلي.
لحل هذه المشكلة اقترح بعض أقطاب فريق 14 آذار، دمج عناصر المقاومة في الجيش، وتحويلها إلى وحدة من وحداته. اقتراح كهذا ينم عن فهم خاطئ للطبيعة المختلفة لكل من الجيش الكلاسيكي والمقاومة، والأخذ به يؤدي إلى إفقاد المقاومة سر قوتها، من دون أن تتعزز قدرة الجيش؛ فانضمام بضعة آلاف من مقاتلي المقاومة إلى صفوفه، لن يغير من ميزان القوى بينه وبين الجيش الإسرائيلي. علماً بأن قوة المقاومة نابعة من طبيعة تركيبتها الخاصة، وأساليب قتالها المرتكزة على فنون التمويه والتخفي والمناورة وسرعة الحركة، وعدم مركزية القرار (حرب العصابات). والأهم، أن بنيتها لا تملك مفاصل واضحة ـــ على حد قول جوهان ثيرون ـــ كي يسهل كسرها؛ فالمقاومة لا تتمركز في الثكنات، وتتموضع على خطوط قتال بارزة على غرار الجيش النظامي. ولو كان الأمر كذلك، لنجح سلاح الجو الإسرائيلي في حرب تموز بإبادة تشكيلاتها خلال ساعات معدودة.
لهذه الأسباب وغيرها، يجب الإبقاء على المقاومة جسماً منفصلاً عن الجيش اللبناني، والاستعاضة عن عملية الدمج، بإقرار خطة دفاع متناسقة، تلحظ دور كل منهما، بما يتناسب مع تركيبته وقدراته (استراتيجية دفاعية).
أما بخصوص تشكيك بعضهم لغلبة «لون» طائفي على تركيبة المقاومة، وتخوّفهم من إمكان «تسييل» قوّتها في لعبة الداخل اللبناني. فالأجدى بهم المطالبة بتوسيع أطرها، لتتنوع «الألوان» داخلها، بدل المناداة بتقييد حركتها وتعطيل سلاحها. نعتقد أن هذا الأمر لا يضير المقاومة، لا سيما أن بيكار جمهورها يتعدى الدائرة الشيعية، فالمؤيدون لخيارها منتشرون في كل المناطق والطوائف والشرائح الاجتماعية.
* باحث في الشؤون العسكريّة