الشباب الذين هجروا لبنان في السنوات الأخيرة، عادوا إلى بيروت خلال الصيف. ضجت العاصمة بأبنائها. استعاد الأصدقاء جلساتهم القديمة، وتشعبت أحاديثهم لتدور حول مدنهم الجديدة. ومع حلول أيلول ستفقد العاصمة اللبنانية من جديد تلك الحيوية التي حملها إليها المغتربون الجدد
بيسان طي
نضرب المواعيد في المقاهي، على أرصفة الحمرا.
نتناوب منذ بداية الصيف، حول طاولات بالكاد تتسع لفناجين الأسبرسو والكافيه غلاسي، وحين يقترب الغروب، وتسعفنا المواعيد، نهرب إلى شاطئ البحر...
هناك في مقهى الروضة، ذلك المكان الذي كتبنا فيه مشاريع التخرج الجامعية، نتابع الشمس وهي تغيب عميقاً في بحر بيروت، إنه طقسنا نستعيده من أيام الدراسة، نوهم أنفسنا أن البحر لنا وحدنا، وأن الاحمرار في الأفق دليل خجل الشمس وهي تودعنا لتوقظ فينا ذكرياتنا وأحلامنا الجميلة.
نضرب المواعيد ويتبدل الأصدقاء. حزيران، تموز، آب... كلهم أتوا إلى بيروت، وفي مكان واحد كانت تتعدد الاتجاهات، في مقهى صغير، حول طاولة صغيرة تصير بيروت عاصمة العالم، مدينة كوزموبوليتية بأبنائها.
وأنا هنا وحدي كناظر المحطة أستقبل العائدين، أودعهم، أستقبل آخرين، كلهم أصدقائي، وكلهم تبعثروا في مدن العالم، يبحثون عن عمل ... ثم عن بطاقة انتماء لأمكنتهم الجديدة.
لندن، دبي، تونس، القاهرة، تورنتو، جدة، الدوحة، أبو ظبي، باريس، البحرين، نيويورك، ميلانو، ستوكهولم، هيوستن، بروكسيل، عمان... كل بقاع الأرض هنا، يحمل كل واحد منهم مدينته، تلك التي ذهب إليها «مجبراً لا بطلاً»، وأعتقد أن شيئاً لن ينسيه بيروت وهواءها وطرقها وناسها وأيام التسكع في زواريب الحمرا، «أيام كنا نجمع المصروف لنتنقل بين المودكا والويمبي ومطاعم شارع بليس، ونواد ليلية»... الحنين يفضح حبل السرة الذي لم ينقطع، حبل يربطنا كلنا ببيروتنا كما أردناها، مدينة تتسع لأحلام عروبيين شباب يقرأون محمود درويش وهيكل وعبد الرحمن منيف، كانوا يخرجون في تظاهرات ضد الترويكا والطغمة الحاكمة، يسبحون ضد التيار ويرتمون مساءً في أحضان مسرح بيروت، يلتهمون ما يعرضه «أي شيء... كأن هذا المسرح نافذتنا على العالم».
هذا الصيف تغيّر الكلام، حضروا كلهم إلى بيروت، وغابت هي عن أحاديثنا، نحن نجلس في المقاهي، في الزوايا التي تكشف لنا الحمرا، وتسمح بالتلصص على الشوارع، في الـ costa والليناز أو Bread republic
المهم أننا في زاوية تكشف الطريق، نتفحص المارين، وحين يخيّل إلينا أننا نعرف أحدهم، نقطع النقاشات الجدية لنعود إلى هوايتنا الأحب «الثرثرة».
يا الله ما أجمل الثرثرة، ملوك نحن في وقتنا المستقطع من الزمن، نقول أي شيء، عن الفستان الذي تلبسه مارة ونجزم أنه يليق بإحدانا أكثر. وفي هذه المناسبة العظيمة، نتأمل لافتات المحال، نذكر أناساً تهربنا منهم فتخفّينا في المتاجر ورحنا نجرّب الملابس والأحذية، نثرثر عن زملاء قدامى حطّ بهم الرحال في أحضان سياسيين نكرههم، ونستفيض في تحليل الوضع اللبناني، ووضع المنطقة، ويأخذنا الحديث إلى القوقاز «فلتحيَ روسيا دائماً»، ومنها نعود إلى لبنان، إلى قصص الحب، وطلاق بعضنا، وخناقات آخرين، والأسعار التي ترتفع بسرعة صاروخية، والأوتسترادات المعتمة، والخنقة في السرفيس والأوتوبيس، وتعلو أصوات أصدقائي المغتربين احتجاجاً على «التشبيح» الزائد، والهوس بالموضة والمظاهر. أتدخّل بحزم للتذكير فقط «لا شيء تغير، إنه لبنان».
ولأن الوقت لا يتسع للخناقات، نعود إلى الثرثرة، ثم بغمضة عين ننسى الآخرين، ويضيع الكلام...
طاولة المقهى الصغيرة خارطتنا الجغرافية على امتداد انتشارنا، كلهم يحكون عن مدنهم الجديدة، عن شوقهم لها، عن ساعة الرحيل التي ينتظرونها، وبيروت غائبة عن الكلام، كأنها تذوب في المدن الأخرى... أنيق خجلها، حين تنسحب بهدوء، بكرم، كأميرة اختفت خلف الستار لتحضر نساء أخريات.
ثمة شيء لا نجيد تفسيره، ما الذي يعيدنا إلى الحمرا؟ لماذا نشعر بها كالعشيق الذي لن يهجر حبيبته مهما تغيرت أو أنكرته؟ يوم أُقفل «المودكا» و«الويمبي» تلقّيت عشرات الرسائل الخلوية من أصدقائي، كانوا يرددون «لن نعود إلى الحمرا»، لكنهم كانوا يكذبون، في هذه المنطقة بالذات نستجدي مساحة لنا، نبحث عن البدائل التي تعيدنا إليها، وكلما انقطع حديث في مقهى... نضرب موعداً جديداً في مقهى آخر.
أصدقائي يسألونني «ألن تتركي هذا البلد، هذه المدينة؟». ولكنني معهم، في محطاتهم القصيرة هنا، أعيد اكتشاف المكان، أرى شارع الحمرا الرئيسي والشمس تنيره، تبعث فيه ألواناً لم أرها في مدن أخرى، أعرف كيف أصل إلى مكتبة بيسان وأنطوان، وإلى الـ
CDtheque
وأعشق مسارح «بابل» والمدينة ودوار الشمس ومونو، وأعرف أن العالم كله لو أردت تذوّقه سأجده في مطاعم منتشرة على أرصفة الحمرا وفي الروشة، وأنني حين أريد، أرقص حتى الصباح في الجميزة أو السوديكو، وينتهي بي المطاف على الكورنيش أركض في رياضتي الصباحية المشرقة...
يخيفني السؤال حين يكرره أصدقائي كأن الهروب من المدينة قدر، سيف مسلط فوق رقابنا، هم يحكون عن مدنهم وأنا أُعيد اكتشاف بيروت، وأعيد تخيّلها كما أريدها وأحبها. ولكنني كلما اقترب الخريف، أشعر برهبة، أنا هنا كناظر المحطة، غداً سيحل شهر أيلول، وآخر المغادرين حزم حقائبه، ينتظر القطار عند الرصيف... لتعود المدينة ـــ كقرية جبلية ـــ إلى يومياتها الشتوية، أشبه بمقهى الأصدقاء المهجور.
بيروت بعد حين تستعيد الحياة كما كانت، هل تذكرون نشرات الأخبار؟


بحثاً عن الوجوه

كنا كلما مررنا أمام المودكا أو الويمبي، نتمهل قليلاً، نخفف سرعة السيارة لتفحّص وجوه الجالسين بحثاً عن أصدقاء. كنا نفعل ذلك بشكل لا إرادي، دون تصميم، كأننا نقوم بواجب لا مفرّ منه. من خلال هذين المقهيين توطدت علاقتنا بشارع الحمرا.
الغريب أننا بسرعة كبيرة تأقلمنا مع تغيرات المكان، ونقلنا عاداتنا إلى مقاهي الرصيف الأخرى والجديدة في بيروت، كلما مررنا قربها نتمهل قليلاً، ندقق في الوجوه بحثاً عن الأصدقاء.