نقولا ناصيفرغم تمديد المهل الذي يرافق المراحل المتعثرة لتأليف حكومة الوحدة الوطنية، فإن أياً من المعنيين بالاتصالات والمشاورات المواكبة لا يجزم بموعد محدّد لإعلان التأليف، ولا يبدي انطباعاً إيجابياً بقربه تحت وطأة الشروط المتبادلة. ويذهب بعضهم إلى الحديث عن مهلة قصوى أخيرة لثلاثة أيام، لا يستبعد بعد انقضائها تخبّط البلاد في فراغ حكومي قد يستغرق أسابيع. وهكذا بعد شغور رئاسي استمر ستة أشهر انتهى باتفاق الدوحة، يستعيد الوضع الداخلي التجربة مع السلطة الإجرائية، وقد فقد ركناها الدستوريان الوحيدان وصاحبا صلاحية توقيع مراسيم تكوينها زمام المبادرة في السيطرة عليها أو اتخاذ موقف حاسم يمكّنهما من ممارسة صلاحياتهما الدستورية في فرض تأليف حكومة جديدة.
لم يعد الأمر يقتصر على وجود شريك ثالث لهما فيها هو فريقا الموالاة والمعارضة، بل بات كل منهما يجد في شريكه الأصلي، الدستوري، المأزق: لا يسع رئيس الجمهورية ميشال سليمان مؤازرة الرئيس المكلف فؤاد السنيورة في تأليف الحكومة بسبب اتخاذه موقف الحياد بين الطرفين المتنازعين، ولا يسعه حمله على الاعتذار عن إخفاقه في تأليفها بغية الخروج من المأزق. الأمر نفسه من وجهة نظر السنيورة إذ يرى سليمان متردّداً في الضغط على المعارضة لإطلاق التأليف والمجازفة بهيبة العهد وهو بالكاد بدأ، وفي الوقت نفسه متساهلاً في إضعاف فاعلية الغالبية النيابية التي سمّت الرئيس المكلف ويقتضي أن تفوز بالحصة الكبرى في الحكومة الجديدة.
والواضح أن جزءاً رئيسياً من المأزق الحكومي يتحمّل اتفاق الدوحة وزره لأسباب، منها:
1 ـــــ أن الاتفاق لم يكتفِ بتحديد حصة الموالاة والمعارضة من مقاعد حكومة الوحدة الوطنية، بل حدّد كذلك الأفرقاء الذين تتألف منهم من ضمن توازن القوى الجديد الذي انتهت إليه حوادث 7 أيار الفائت. وهو أمر يفضي حكماً إلى تمكين كل من هؤلاء، ضمناً، من امتلاك حق نقض أي تشكيلة حكومية لا تحظى برضاه أو تستجيب شروطه، أو حتى تنفّره من الحصة التي نالها خصمه. ولأن هؤلاء جميعاً اشتركوا في مداولات اتفاق الدوحة ووقّعوا وثيقة التفاهم المنبثق منه، أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الاتفاق نفسه، لا مجرّد أفرقاء ملزمين تطبيقه تحت مظلة إجماع عربي ودولي كان قد كرّس شرعية مرجعيتهم ودورهم. وهذا ما يبرّر تمسّك أكثر من فريق بحصة رفضها له الفريق الآخر، وكلاهما يعرف أن لا حكومة تتألف من دونه، كما أن حليفه ـــــ في الموالاة وفي المعارضة ـــــ سيقف إلى جانبه في الدفاع عن هذه الحصة. بذلك يجلس الجميع إلى رصيف حكومة لن تتألف تحت وطأة هذا التجاذب.
2 ـــــ رغم أن اتفاق الدوحة أرسى حلاً استند إلى تقسيمه صراع القوى بين الموالاة والمعارضة، ووزّع المقاعد الوزارية تبعاً له، فإن المواجهة القائمة منذ أكثر من أسبوع تتوخى تركيز المأزق على أن العقبة التي تحول دون التأليف مسيحية ليس إلا، وأن أصابع الاتهام لا تُوجّه إلا إلى طرف واحد هو الرئيس ميشال عون الذي يطالب بحصة يعدّها هو ملائمة لتمثيله الشعبي والنيابي، ويعتبرها خصومه في الفريق الآخر وأخصّهم مسيحيوه أكبر ممّا يتعيّن أن يحصل عليه. بذلك اختبأ الأطراف الآخرون في قوى 14 آذار والمعارضة على السواء تارة وراء حزب الكتائب والقوات اللبنانية من جهة ووراء عون من جهة أخرى، وطوراً وراء رئيس الجمهورية ميشال سليمان من جهة ووراء عون من جهة أخرى. لم يعد مسيحيو الفريقين وحدهم الذين يطالبون بتمثيل متوازن لكل منهم حيال الفريق الآخر، بل اصطفّت القوى غير المسيحية وراء هؤلاء لتبرير تضامنها معهم، الأمر الذي أبقى المشكلة تراوح مكانها.
بذلك أضحى المأزق الحكومي كأنه يواجه انقساماً مشروعاً بين القيادات المسيحية على حجم تمثّلها في حكومة الوحدة الوطنية، فيما سُلّم للآخرين بحق مشروع هو تسليم أقطابهم وحدهم تمثيل طوائفهم. يصحّ ذلك على تيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي العمود الفقري للقاء الديموقراطي، مع أن نتائج حوادث 7 أيار دون سواها حملت النائب وليد جنبلاط على الانفتاح مجدّداً على الثنائية الدرزية ـــــ الدرزية في التمثيل الشعبي التي كان قد أرغم على مجاراتها في الحقبة السورية، وانقضّ عليها في انتخابات 2005.
3 ـــــ على وفرة أدلة تعثر الاتفاق على توزيع حقائب الحكومة الجديدة، فإن المقاعد الموزّعة على الأفرقاء المسيحيين باتت شبه نهائية. وبعدما حُسمت حصة عون وحلفائه بخمسة مقاعد (مارونيان + أرثوذكسي + كاثوليكي + أرمني)، بُتّ إلى حدّ بعيد مآل المقاعد المسيحية الأخرى على نحو يعطي القوات اللبنانية وزيرين (الأرثوذكسي عماد واكيم الذي تصرّ القوات على حقيبة الأشغال العامة والنقل له + الماروني طوني كرم لوزارة الدولة بعد استبعاد النواب القواتيين ال5)، والرئيس أمين الجميل وزيراً واحداً (يريده مارونياً مع انفتاحه على إبداله بكاثوليكي هو صهره ميشال مكتف)، ووزير ماروني للقاء قرنة شهوان. لكن هذه الحصة لا تحجب ذهاب 3 مقاعد مسيحية، أحدها إلى جنبلاط (كاثوليكي يعوّض مقعده الدرزي الذي سيحلّ فيه النائب السابق طلال أرسلان) والاثنان الآخران إلى رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، أحدهما أرمني.
في حصيلة الجبنة المسيحية يقتطع عون خمسة مقاعد مسيحية، في مقابل سبعة مقاعد لقوى 14 آذار يذهب نصفهم تقريباً إلى الزعيمين الدرزي والسنّي.
وسواء عُدّ هذا التقاسم متساوياً لطرفي النزاع، واقع الأمر أن الكتلة النيابية لعون تمثّل ثاني أكبر كتلة في البرلمان (22 نائباً) بعد كتلة الحريري (35 نائباً)، وتتقدّم كتل جنبلاط (15 نائباً بعد شغور مقعد النائب الراحل أنطوان غانم) والرئيس نبيه بري (15 نائباً) وحزب الله (14 نائباً). الأمر الذي يبرّر لدى عون مجازفته في دفع المأزق الحكومي إلى ذروته ـــــ وهو يدرك في الوقت نفسه أنه لا حكومة من دونه ـــــ ما لم تعطَ كتلته امتيازاً مماثلاً للذي يعطى للكتلة النيابية الأكبر ما دامت هذه تستمد القسط الرئيسي من قوتها من كونها الأكثر تمثيلاً لطائفتها أولاً.