إبراهيم الأمينكان النائب سعد الحريري أمام تبرير واحد لعدم ترشيح نفسه إلى منصب رئيس الحكومة: الاستعداد للانتخابات النيابية المقبلة. وهي ورشة يدرك الحريري الابن أنها ستكون أصعب بكثير من التي سبقتها. ليس في الخطاب التعبوي فحسب، بل في الأدوات التنفيذية. والمهمة الأولى أمام وريث رفيق الحريري، هي إعادة ترميم الوضع التنظيمي في «المستقبل»، وهي المهمة التي أقرّ هو بضرورتها في معرض بحثه للوضع الآن، وهو الذي سبق أن تلقّى عشرات الشكاوى من كوادر سبق أن كانوا من الناشطين في انطلاقة التيار التي أعقبت اغتيال والده، هؤلاء الذين احتجّوا على أمور كثيرة، من النقص الحاد في التواصل معه، وعدم الاكتفاء بالنشرة السياسية التي تبثّها مجموعة «المستقبل» الإعلامية، إلى جانب جدول الاعتراضات المفتوح على تعيينات وتشكيلات تحصل وتتغيّر من دون معرفة الأسباب، كذلك بشأن الاستنسابية التي تتحكم ببرنامج توزيع المساعدات المالية والعينية التي تمثّل عنصراً بارزاً في عمل التيار. لكن الاحتجاجات لم تبق في هذه الحدود، وعلى الرغم من التوتر السياسي الذي يأخذ طابعاً مذهبياً في كثير من الأحيان، فإن جمهور التيار المعبّأ بقوة ضد المعارضة، ولا سيما حزب الله والتيار الوطني الحر، وضد سوريا، لم يكن ليغيّر موقفه السياسي، وإن كانت الأيام وبعض التطورات قد أثّرت في تماسك خطاب هؤلاء، إلا أن ذلك لم يمنع قسماً لا بأس به من كوادر التيار وعناصره وحتى مناصريه، من التعبير عن احتجاجاتهم التنظيمية، من خلال انتظار الاستحقاقات، وخصوصاً المناسبة السنوية التي تأتي في 14 شباط، تاريخ اغتيال الحريري، حيث برز في العامين الماضيين، وفي العام الماضي خصوصاً، تراجع نسبة مشاركة جمهور التيار في الاحتفال الشعبي، وشعور هذا الجمهور بأنه بات على عاتقه فقط توفير القاعدة الجماهيرية التي تخاض بواسطتها المعارك السياسية في البلاد. ولم يمض الوقت الطويل، حتى انحصر المشهد بتجمّعات تأتي خاصة من البقاعين الأوسط والغربي ومن الشمال.
على أثر الحوادث الأخيرة، حصل انهيار معنوي كبير في تيار «المستقبل». حتى اللحظة، لا يبدو أن هناك عدداً كبيراً قد غادره مع مراجعة سياسية. لكن الأكيد، من مؤشرات عديدة، أن ثمة جسماً إضافياً ــــ هو طفيلي على الأغلب ــــ كان قد نما بصورة طبيعية من حول جسم «المستقبل» لمجرد أنه قام بقوة وتولّى إدارة البلاد والعباد. وهو جسم تعوّده اللبنانيون في أماكن مختلفة وعلى حواشي أجسام مختلفة. وهذا الجسم سبق أن أدّى دوراً مع أجهزة استخبارات متنوعة، وهو تطوّع أو جرى تطويعه في أدوار تشبه قبضايات الأحياء الذين يتحوّلون إلى مخبرين. وكان فرع المعلومات الذي نشط بقوة خلال العامين الماضيين، قد استقبل العشرات من هؤلاء، لكن هذه الجموع كانت أول من غادر منزله وترك أغراضه وفرّ إلى جهات معلومة للذين طلب منهم الأمان. وحصل هذا الأمر في أكثر الأمكنة حساسية لتيار «المستقبل».
من جانب آخر، كان قياديّو «التيار» وإعلاميّوه من الذين انتشروا كمدمرات في الأحياء وعلى الشاشات والمنابر، يوحون للقريب والبعيد بأنهم يقبضون على الأزرار النووية، وصارت حكايات شركات الأمن والحراسة مثل كلمة السر للقول إن التيار عندما يرفع سقف خطابه، وعندما يلتزم قائده بإعلان استعداده للذهاب إلى الحرب، فهو قادر على القيام بهذه المهمة، حتى عمليات التسلّح التي قيل إنها فردية (وكان البعض يتوقع أن تحوي مراكز تيار «المستقبل» مدفعية ميدان أو مروحيات قتالية) ظلّت تجري بطريقة بدائية، تشبه كلاسيكية ساذجة للهرمية العسكرية والأمنية التي عمل عليها ضباط سابقون في الجيش، من الذين تولّوا إدارة المجموعات وتأهيلها. وحين وضع الجميع أمام الاختبار كانت الفضيحة، وكان الأغرب هو اتكال «البيارتة» من كوادر «المستقبل» على فعالية خاصة سوف تظهر من جانب الأنصار القادمين من قرى البقاع وعكار. وعندما انهار الجميع في بيروت، أطلقت الشتائم على «الغرباء»، وربما أدّت هذه الحملة دوراً في تعبئة قائمة على الشعور بالذنب لدى أنصار «المستقبل» الذين تورّطوا في مجزرة حلبا ضد عناصر من الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو تلك المجموعات التي انتشرت على طرقات البقاع المؤدية إلى سوريا، والتي سرعان ما رفع عناصرها لافتات انتماء إلى تنظيمات إسلامية سلفية لاعتقادهم بأن هيبتها أكبر من هيبة «المستقبل» التي انهارت في بيروت.
كل ذلك، أعاد إلى الواجهة الكلام عن الثغر التنظيمية والسياسية في التيار السياسي الأحدث في لبنان، ولكن المشكلة الآن، ليست في غياب العصبية عند الجمهور التقليدي لزعامة الحريري، بل في وسائل التعبئة والتحريض، لأن أبناء العاصمة يسمعون ويستغربون الحكايات المبالغ فيها والمفبركة عن اعتداءات وعمليات نهب وتخريب جرت في العاصمة، لدرجة أن المستشار الفكري والسياسي لرئيس الحكومة المفتي رضوان السيد قدّم في مداخلة تلفزيونية قبل أيام عرضاً لما جرى في بيروت، كأنه يتحدث عن حرب السنتين أو عن الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة قبل ربع قرن، حتى إن أهل المدينة لا يتذكرون أين حصلت هذه الحوادث. وحتى عندما بدأت لجان «المستقبل» حملتها للمسح ودفع التعويضات، وجدت أن الأمر أسرع وأسهل مما قال الجميع من التيار، علماً بأن النكتة الرائجة الآن تقول إن الحريري سوف يصرف مبالغ كبيرة أو إن مساعديه من قيادات بيروت سوف يضغطون لأجل صرف مبالغ كثيرة، أولاً لأجل أن تطابق التعويضات الكلام الإعلامي عن الأضرار، وثانياً لأن هناك من يحتاج إلى تعويض له بعده المعنوي.
وإذا كان «المستقبل» سيكتشف من الآن حتى العام المقبل، حجم الخسارة المباشرة في شعبيته وقدرته التجييرية، فإن النقاش الأهم هو المتعلّق بما سوف يكون عليه الأمر في كل من البقاع والشمال، حيث تظهر مؤشرات أوّلية أن الخصومات القائمة الآن قابلة للتوسع، وأن المعارضين لزعامة الحريري الذين أخفوا رؤوسهم طويلاً بين الحشود، سوف يظهرون على هيئة من يريد المراجعة، لأجل التدقيق في الأسباب التي أدت إلى ما أدت إليه الحوادث الأخيرة، وحيث تبرز الفرصة لمواجهة متكافئة على التمثيل السياسي لسنّة لبنان.

غداً: الشمال المحبط