نقولا ناصيفلم يُرضِ تكليف الرئيس فؤاد السنيورة ترؤس أولى حكومات العهد الجديد المعارضة، إلا أنها لم ترفع من وتيرة امتعاضها أكثر من توجيه إشارات إعلامية ليس إلا. قبلت بخيار الغالبية وراحت تعدّ نفسها للمواجهة مع السنيورة وقوى 14 آذار داخل الحكومة الجديدة في المرحلة المقبلة. في المقابل وجد قريبون من الرئيس المكلف أكثر من سبب لتبرير حتمية تكليفه ترؤس ثانية حكوماته، وعزوا الخيار إلى دوافع، أبرزها:
1ـــــ أن الحكومة الجديدة هي حكومة الوحدة الوطنية، وفق ما نصّ عليها اتفاق الدوحة، بغية مراعاة توازن القوى بين طرفيها المتنازعين، الموالاة والمعارضة. ولأنها كذلك لا يصّح مقاربتها على نحو حكومة الانتخابات النيابية عام 2005 التي رأسها الرئيس نجيب ميقاتي وضمّت وزراء قريبين من الطرفين وقصرت مهمتها على إجراء تلك الانتخابات، على أنها حكومة محايدة. بذلك كانت، رئيساً ووزراء، على صورة المرحلة التي فصلت بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإعلان نتائج انتخابات 2005 ونشوء توازن قوى جديد رافق خروج الجيش السوري من لبنان، بين قوى أطلقت العداء لدمشق وأخرى تشبّثت بالتحالف معها. لم يكن في وسع حكومة ميقاتي إلا الاكتفاء بإجراء انتخابات نيابية تحت وطأة ضغط دولي وغليان شعبي متناقض المشاعر. لم تنعت بحكومة وحدة وطنية، ولا كانت مدعوة إلى تحقيقها على نحو ما ترمي إليه ظاهراً الحكومة الجديدة.
وفي واقع الأمر ليست الوحدة الوطنية، ولا المصالحة الوطنية بالتأكيد، هدف ثانية حكومات السنيورة، بل وضع السلطة بين يدي الفريقين المتنازعين بإرساء توازن سياسي داخل مجلس الوزراء، الأمر الذي يحتم عندئذ أن يكون رئيس الحكومة في صلب هذا التوازن ما دام يمثل الغالبية، بمقدار ما يمثل وضع نصاب الثلث الزائد واحداً في عهدة المعارضة الكفة المقابلة لهذا التوازن.
2ـــــ لم تكن تسمية الرئيس المكلف إلا أحد خيارين ثانيهما رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، وكلاهما رأس حربة قوى 14 آذار في المواجهة مع المعارضة. إلا أن أياً منهما ليس منافساً للآخر، إما لأن السنيورة لا يريد الترشّح للنيابة، أو لأنه لا يضع نفسه في منزلة متسابق على الشعبية والزعامة السنّية المعقودة اللواء للحريري، أو لأنه يجد دوره في المرحلة المقبلة أقرب إلى ما رافق حكومة ميقاتي، وهو تأمين الانتقال من برلمان إلى آخر سيرسم بدوره ملامح توازن القوى الداخلي الجديد في الربيع المقبل. وسواء كانت المبرّرات التي تسلّح بها الحريري الابن للعزوف عن ترؤس أولى حكومات عهد الرئيس ميشال سليمان مقنعة أو لا تعدو كونها ذرائع، فالخيار الوحيد ـــــ والأصح أنه التحدي ـــــ المطروح أمام رئيس تيار المستقبل هو خوضه انتخابات 2009 بنجاح لا يستنفد نجاحه في رئاسة الحكومة. والعكس هو الصحيح.
3ـــــ لا يمثّل الرئيس المكلف وحده صورة مرحلة سابقة رمى اتفاق الدوحة بحضّه على تأليف حكومة الوحدة الوطنية إلى تجاوز آثارها، بل يجتمع معه في الصورة نفسها شركاؤه وخصومه في التركيبة السياسية التي حكمت لبنان بين تموز 2005 وأيار 2008، ودفعت به إلى الانهيار والانفجار في آن معاً. لم يكن وحده مصدر الانقسام والخلاف والانحياز، ولا يعني في المقابل استبعاده تبديد انطباع كهذا تورّط فيه الأفرقاء الآخرون بلا استثناء.
في كل الأحوال اضطلع السنيورة بدورين مختلفين في علاقته بمرجعين آخرين كانا في صلب المواجهة بين الموالاة والمعارضة، هما الرئيس السابق إميل لحود ورئيس المجلس نبيه بري.
كنّ للحود كرهاً شخصياً مزمناً يعود بعضه إلى عام 1993 عندما اقتحم جنود مبنى وزارة المال، والبعض الآخر إلى ملاحقته قضائياً باتهامات تناولت إهدار مال عام بغية التشهير بالرئيس رفيق الحريري. مع ذلك ساكن السنيورة لحود في السنة ونصف السنة الأولى حتى استقالة الوزراء الشيعة الخمسة في 11 تشرين الثاني 2006، ولم ينقطع عن زيارته ولا تجاوز موقعه في رئاسة الجمهورية مما عرّضه للوم حلفائه في قوى 14 آذار عندما كان هؤلاء يهاجمون الرئيس السابق للجمهورية بعنف. وهو بذلك أدار خلافاً هادئاً مع لحود إلى أن وقع الصدام المباشر بينهما في أواخر آذار 2006 في القمة العربية في الخرطوم. حتى إبان الخلاف على مشروع المحكمة الدولية في اغتيال الحريري الأب لم تقع القطيعة بين الرجلين حتى طعن لحود بشرعية حكومة السنيورة وانقطع عن حضور جلسات مجلس الوزراء.
إلا أن المشكلة لم تكن بحدة مماثلة مع برّي، وإن شهدت علاقتهما كرئيسين للمجلس والحكومة قطيعة لا سابق لها، لم تخلُ من مشاعر شخصية سلبية. استعجل السنيورة ما تروّى حياله الحريري الأب عندما أبقى صلة وصل مستمرة بينه وبرّي في إدارة شؤون الحكم والتفاهم على الخيارات والقرارات، فإذا بخلفه يضع حاجزاً غير مألوف في علاقة السلطتين الاشتراعية والإجرائية منذ وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ، بأن أبلغ رئيس المجلس أن ما يفصل بينهما هو صلاحيات كل منهما في نطاق المؤسسة التي يرأس من دون أي تداخل، ما حمله على اتخاذ إجراءات أغضبت برّي بسبب تجاهله بإزائها، لم يعد السنيورة ـــــ كالرئيس الراحل ـــــ يتشاور وإياه أو يتبادلان الرأي. كان لذلك بعد آخر ضمني هو اعتقاد رئيس الحكومة بأن برّي قسا على الرئيس الراحل وساومه وحمله على التنازل والتخلي عن كثير من اقتناعاته في سبيل إرساء تعاون مقبول بينهما في الحقبة السورية، ويرى كذلك أن رئيس المجلس اضطلع بدور سلبي لدفع الحريري إلى الاستقالة من آخر حكوماته عام 2004 والحؤول دون عودته إلى رئاسة الحكومة. بل يرى السنيورة أن بري كان السبّاق إلى القطيعة عندما طعن بحكومته وعدّها غير شرعية.
بذلك أفضى الخلاف بين الرجلين إلى نشوء توازن قوى بين السنيورة وبرّي جعل كل منهما من خلال المؤسسة التي يرأس سلاحاً يواجه به الآخر. في مقابل إقفال أبواب مجلس النواب، اندفع السنيورة في اتخاذ قرارات وإحكام سيطرته على السياسة الخارجية والاتصال بالمجتمع الدولي، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة التي شهدت شغور رئاسة الجمهورية، على نحو فاقم من الشرخ القائم بين الرجلين، واستطراداً بين الموالاة والمعارضة.