بعدما دُفنت الوثيقة الوطنيّة الجامعة فُتح الباب أمام وثائق الطوائف


عندما عُقد الاجتماع التحضيري لإطلاق مشروع اللقاء المسيحي الوطني في الرابية في 17/6/2008 كانت تُطلق رصاصة الرحمة على جثّة الجبهة الموحّدة للمعارضة. هذه الجبهة التي أُريد لها أن تكون خياراً وطنياً شاملاً وبرنامجاً للمعارضة

ثائر غندور

في الأيام الأخيرة برز تناقض واضح بين أطراف المعارضة. تُشكّل التحضيرات للانتخابات النيابيّة أساس هذا التناقض، بعدما حصر قانون 1960 المُعدّل، بفعل تقسيماته في الدوحة، التنافس الانتخابي بين المذاهب. وهذا القانون الذي حسم المعركة سابقاً في أغلب الدوائر، أبقاها في الدوائر المسيحيّة وعدد من الدوائر السنّية. هكذا أصبح التنافس تحت شعار: «من يكون طائفياً ومذهبياً أكثر». وبالتالي يُهاجم النائب ميشال عون موقع رئاسة الحكومة ليقوّي موقعه، فيردّ عليه الرئيس عمر كرامي ليحفظ نفسه في الشارع السنّي.
في آذار 2008، كانت المعارضة تُعدّ لإطلاق وثيقة جامعة على مستويات ثلاثة: تحديث النظام السياسي، إصلاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والمسألة الوطنية وحماية لبنان وصون استقلاله وسيادته. وكان يُفترض تأليف لجنة سداسيّة تضم ممثلين عن أطراف المعارضة لنقاش وثيقة أعدّها النائب السابق زاهر الخطيب بين اللقاء الوطني والتيّار الوطني، وجرى نقاشها وإجراء بعض التعديلات عليها.
لكن الرياح لم تجر كما تشتهي سُفن بعض المعارضين المتحمّسين، بل كما أراد آخرون غير متحمّسين... فقتلوا الجنين قبل أن يولد، واختلف كثيرون على موقعهم في هذه الجبهة.
لخّص اجتماع الرابية «المسيحي» هدف لقائه بـ: «تجميع المسيحيين في سياسة وطنيّة توحيديّة جامعة تحافظ على الصيغة والميثاق والعيش المشترك، وتحفظ للمسيحيين دورهم الرائد ووجودهم الفاعل في وطنهم لبنان، ضمن تفاعلهم في محيطهم وانفتاحهم على العالم».
كذلك يسترشد اللقاء بـ«وثيقة الطروحات المسيحية»، بغية توحيد الصف والجهود وتركيز فكر سياسي ونهج مسيحي وطني استنهاضي. وكانت هذه الوثيقة التي أُعلنت في تشرين الثاني 2007 قد تبنّت الديموقراطيّة التوافقيّة لأن «الحرية والتنوّع وقبول الآخر والتناغم معه هي من ميزات لبنان الحضارية. ومن ثوابته الأساسية أنه لا يُحكم بمنطق الأكثريّة والأقليّة». ورأت أن «استهداف المسيحيين هو استهدافٌ للبنان في وحدته وفرادته، وينصبّ اهتمامنا على ما يصيب المسيحيين من تهميش، متوقفين خاصة عند الخلل الديمغرافي الناجم عن مرسوم التجنيس وسوء تمثيل المسيحيين النيابي المترتب على قوانين الانتخاب الجائرة، ناهيك بعيوب مشاركتهم المنقوصة في الحكومة والإدارة العامة والقضاء والمؤسسات الأمنية، إضافةً إلى ما تعرّضوا له من تهجير وهجرة واضطهاد وانتهاك لحرياتهم، وما نالهم على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية».
في المقابل، كانت وثيقة المعارضة تتحدّث عن تطبيق فقرات الدستور التي تنصّ على آليات تجاوز الطائفيّة السياسيّة في النظام اللبناني، بتأليف الهيئة الوطنية، وإلغاء الطائفية السياسية، وتوفير المشاركة السياسيّة الشعبيّة، والتمثيل الصحيح، وتحقيق الديموقراطيّة على قاعدة العدالة، والمواطنة المتساوية مع خفض سن الاقتراع إلى 18 سنة. كذلك عصرنة قوانين الأحزاب، والجمعيات، والنقابات والهيئات الأهلية وصون الحق بالتجمع، والتعبير، والتظاهر، وتطوير آليات عمل النقابات، والتجمعات المهنيّة، والارتقاء بها لتكون مؤسسات وطنية جامعة تمثّل القاعدة الاجتماعيّة لقطاعاتها، وتؤمّن تداول السلطة فيها عبر إلزامية الانتخابات الداخلية.
وطُرح أيضاً إلغاء قوانين حصرية امتلاك الوسائل الإعلامية (كامتيازات الصحف والمجلات السياسية)، واعتماد مبدأ الاستفتاء الشعبي الملزم في القضايا المصيرية الوطنية والدستوريّة، والعيش المشترك، والمعاهدات الدوليّة.
كذلك وازنت تلك المسودة بين الحفاظ على المبادرة الفرديّة وقيام اقتصاد اجتماعي تضامني إنتاجي يقوم على المنافسة الحرة، وعلى رفض الاحتكار، ومنع الوكالات الحصرية، وتوفير شكبة أمان اجتماعي واعتماد الضريبة التصاعديّة، وعدم الاستدانة بالعملات الأجنبيّة إذا وجبت المدفوعات بالعملة الأجنبية.
وركّزت على مفهوم العدالة الاجتماعيّة وإلغاء الامتيازات الطائفية والمذهبية، وتحقيق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات والمساواة بين الرجل والمرأة في القانون، وفي العمل، وفي التعليم، وحماية القدرة الشرائية للرواتب والأجور. وطالبت بحلّ مشكلة المهجرين حلاً جذرياً في كل مواقع التهجير، وفي جميع المحافظات منذ عام 1975، عبر إعادتهم إلى أملاكهم وديارهم، وضمان حرية إقامتهم، وتملّكهم، وتوفير ظروف العمل لهم، ولجم أية محاولات لمنع عودتهم أو إعاقتها أو تأخيرها، ووقف مزاريب الإهدار والفساد في وزارة المهجرين تمهيداً لإلغائها.
وحدّدت هويّة لبنان بأنه عربي الانتماء والهويّة، وأي دعوة لهوية أخرى إنما ستكون منافية للواقع ولتاريخ لبنان الحقيقي وللميثاق والدستور، وتستوجب المحاسبة. ورفضت كل أشكال الوصاية الخارجية، وكل آليات التدخل الأجنبي في الشأن اللبناني، بما يتعارض مع الإرادة الوطنية الجامعة، والعمل على إسقاط أشكال هذا التدخل وآلياته بالوسائل والطرق المشروعة، والملزمة للشعوب حين تتعرض أوطانها للتدخلات وللغزو الخارجي وتطبيق الأصول الدبلوماسيّة.
قد يكون نصّ المسودة مشتملاً على تفصيلات وشروح أكثر، لكن مصيرها كان الأدراج. ويُعبّر عدد من المعارضين عن استيائهم من المسار الذي اتخذته الأمور. ويشرحون موقفهم بالقول إن «مذهبة المعارضة لا تعود بالفائدة عليها، بل على الموالاة». في رأيهم، إن تحويل المعارضة إلى مجموعة من الجبهات أو المجموعات الطائفيّة أو المذهبيّة التي تتحالف في سبيل الوصول إلى السلطة وتوفّر غطاءً لمشروع كلّ مجموعة على حدة، يؤّدي إلى القضاء نهائياً على أي أمل في بناء الدولة. ويرى بعض منهم، من ذوي الجذور العلمانيّة، أن وجوده في المعارضة كان لسببين: حماية المقاومة وبناء معارضة وطنيّة حقيقيّة، وبالتالي فإن «ما يحصل يضرب المشروعين» يقول أحدهم، مضيفاً: «من المفيد إجراء بعض النقد الذاتي».


هكذا ولدت الفكرة

عندما التقى وفد اللقاء الوطني مع النائب ميشال عون في منزله في الرابية في آذار 2008، أبدى الأخير رغبته في توقيع وثيقة تفاهم معهم، الأمر الذي تلقّفه وفد اللقاء الوطني فتواصل مع باقي الأعضاء الذين توافقوا على أن يقوم النائب السابق زاهر الخطيب بإعداد الورقة وعرضها على الجميع، فأعدّها خلال أربع وعشرين ساعة، مستعيناً بأدبيّات الحركة الوطنيّة، وما لبثت أن تطوّرت الفكرة باتجاه تعميمها على باقي مكوّنات المعارضة