هيثم خزعليبدو المشهد كاريكاتورياً حول طاولة الدرس في منزل أبي غسان. فالمفارقة أنّ غسان البكر (33 عاماً) وبلال الابن الأصغر (18 عاماً)، يستعدان لخوض الامتحان الرسمي في شهادة الاجتماع والاقتصاد. وفي تفاصيل القصة، أنّه قبل خمسة عشر عاماً ساءت أوضاع العائلة المالية، بعدما اضطر أبو غسان للامتناع عن مزاولة العمل مدة سنة كاملة إثر حادث تعرض له في ورشة بناء، فصرفت العائلة مدخراتها في الأشهر الأربعة الأولى بعد الحادثة، وباتت بلا مورد مالي. وكان غسان في تلك الفترة يتحضر لخوض الامتحان الرسمي في شهادة الفلسفة، فيما كان بلال في صف الروضة الأولى.
طُرد إخوة غسان من مدرستهم لعدم تسديد الأقساط، وما كان من غسان إلاّ أن ترك دراسته مرغماً ليبدأ عراك الحديد في ورشة للحدادة بدل عراك كتب الفلسفة والأدب. كما استقر الحال بأخته التي كانت في الصف الثانوي الأول في مصنع للحلوى. نجح غسان خلال رحلته في ورشة الحدادة في انتشال عائلته من الفقر، كما جنّب إخوته الانقطاع عن المدرسة بعدما استطاع وأخته تسديد أقساطهم، فأصبحت له مكانة كبيرة في قلب والده واحترام تكنّه له العائلة وثقة مطلقة تخوله أخذ القرار معظم الأحيان. بعد رحلة الحديد الشاقة، نجح غسان في إحدى الوظائف الحكومية، وشعرت العائلة بالأمان في ظل حالة الوالد الذي لم يعد يقوى على مزاولة عمله الشاق.
ثلاثة عشر عاماً انقضت، قرر غسان بعدها إكمال دراسته، بتشجيع من أخيه الصغير، وقدّم طلباً لنيل الشهادة الثانوية، وخصوصاً أنّه يطمح لدراسة العلوم الاجتماعية.
يجتمع الأخوان في هذه الأيام حول طاولة الدراسة التي تزدحم بالكتب والأوراق. كهل أصلع حطّت مرارة الأيام على وجهه فغزته بتجاعيد خفيفة وغيبت الابتسامة عن شفتيه، تراه رزيناً مجتهداً منكباً على الدراسة، لعله يحقق حلم الأمس، ومراهق يزخر بالحياة، صلب البنية، طويل القامة، واثق متوثب لا تفارق الضحكة شفتيه.
تتورد وجنتا غسان كلما طلب من أخيه أن يشرح له درساً أو يفهمه سؤالاً، فيقهقه الآخر قائلاً: «من قال إن من يكبرك بيوم أعلم منك بسنة، كان حتماً مخطئاً». يثور غسان لكن الصغير يعتذر منه وييقبل جبينه. جلسات الدرس لا تخلو من تأنيب غسان لأخيه كلما تلقى اتصالاً أو رسالة من حبيبته فيبادره قائلاً: «ركز في درسك، كي لا يذهب تعبك هدراً»، فيجيب بلال: «أنا أكيد من نجاحي لكن الحياة لا تحلو من دون نساء». في شخصية الأخوين كثير من التناقضات، لكن هدفهما واحد وهو تخطي عقبة الامتحان الرسمي. يتمنى بلال النجاح لأخيه قبله، عساه يرد شيئاً من جميله الذي غمر به العائلة ثلاثة عشر عاماً ولا يزال، أما غسان فيمتعض مردفاً: «لو أنني أتممت تعليمي، لكنت أنا الآن أدرسّه لا هو».