بعيداً من المتاحف والمعارض التي تتناول المنازل الترابية في التراث اللبناني، هذه بعض من يوميات سكان تلك البيوت الكائنة في قرية الخريبة التي يزيد عمرها على المئة سنة. بيوت لا يلطّف صعوبة العيش فيها إلا طعم الذكريات والإحساس بالانتماء
الخريبة ــ علي يزبك

يبدو الحيّ الغربي من قرية الخريبة كبقعة من خارج الزمن: شوارع ضيقة، منازل مبنية من الحجارة والطين، مطلية بالكلس الأبيض ومتلاصقة، بحيث يمكنك الانتقال من منزل لآخر وأنت تسير على السطوح. حيّ مؤلف من أكثر من عشرين بيتاً، وقف فقر أبنائه وانعدام الخدمات الأساسية وفرص العمل حاجزاً أمام تطور البناء فيه، فبقيت المنازل المأهولة على حالها، حتى بات الكثير منها متهالكاً، وأصبح السكن فيها مغامرة غير مأمونة العواقب.
لعب الفقر في الخريبة دوراً أساسياً في المحافظة على الهوية والتاريخ. هذه القرية تقع عند سفح سلسلة جبال لبنان الشرقية على ارتفاع 1500 متر إلى الشرق من مدينة بعلبك، وتعيش منذ عقود هجرة أبنائها. فمن تأمنت له حياة رغيدة خارجها غادرها وترك منزله يتحول إلى أطلال، وهدم الميسورون منازلهم الطينية وشيّدوا مكانها منازل عصرية. هكذا بقي «الانتظار» مصير الفقراء كما يقول إسماعيل مفلح (40 عاماً) الذي يعيل أسرة من خمسة أطفال أكبرهم في الثانية عشرة وأصغرهم يبلغ قرابة السنة من العمر.
يضيف مفلح «أعاني إعاقة جسدية أجبرتني على السكن مع عائلتي في هذه الغرفة التي بناها جدي لأبي منذ 110 سنوات، ونرممها مع بداية الربيع ونهاية الصيف بواسطة الطين المخلوط بالقش، وهذا العمل الشاق تقوم به زوجتي بمساعدة إحدى قريباتها، ولكن العيش في هذه الغرفة لا يتلاءم مع هذه الأسرة والمتطلبات المعيشية، فالمطبخ في الخارج، إضافة إلى أنه مكشوف، والسقف يتطلب عناية خاصة، لا سيما في الشتاء حيث يحتاج إلى الحدل باستمرار». ويؤكد مفلح أنه «مستعد لهدم منزله الترابي والبناء مكانه لكي يستر عائلته تحت سقف متين» كما يقولولا يختلف رأي الحاجة ونسة محمد أسعد (75 عاماً) عن هذا الموقف، حيث تقول إنها مستعدة لترك منزلها الطيني الذي بُنِيَ بدوره قبل 100 عام تقريباً: «أعيش في هذا المنزل الكبير الذي يتألف من غرفتين كبيرتين وإيوان ومطبخ ومنافع مع حفيدتي بعدما اضطر ولدي للذهاب إلى بيروت والسكن هناك. إنها حياة قاسية، وخصوصاً في فصل الشتاء، وقد أتى جيراننا في إحدى الليالي العاصفة وأخذونا إلى منزلهم خوفاً من انهيار السقف فوق رؤوسنا». تتابع ضاحكة «انتهى دور هذه البيوت حيث تعاقبت على سكنها ثلاثة أجيال، وآن لها أن تستريح، ونحن بدورنا يحق لنا أن ننعم في أواخر أيامنا بليلة هانئة».
ولا تفوت ونسة الإشارة إلى أن «الزمن تغيّر، ففي القديم كان الجيران والأقارب يتعاونون على بناء المنازل وإجراء الصيانة الموسمية، وحتى عملية الحدل في الشتاء، أما اليوم فقريتنا باتت شبه خالية إلا من العجائز، والعمران بحاجة إلى شباب». وتؤكد ونسة أنها «لا تمانع أن يرمّم منزلها ويتحوّل إلى منزل تراثي لكي يبقى شاهداً على العمران في المنطقة»أما الحاجة زرافات حسن التي تسكن في منزل مشابه وتعيش وحيدة «إلا مع الذكريات»، فتؤكد أنها متمسكة بمنزلها، وهي لن تغادره «حتى آخر نفس». لكنها، في المقابل، تتمنى أن تستيقظ ذات يوم وتجد سقفه وقد صبّ بالباطون، لأنها لم تعد تقوى على القيام بأعمال الحدل في الشتاء. وعن سبب رفضها المغادرة تقول «إنه منزلي وأحبه، فحجارته المغطاة بالطين تؤمن الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف، وأعيش فيه منذ ولادتي. صحيح أنني اليوم وحيدة، ولكني أشعر بالأمان مع هذه الجدران التي باتت رفيقتي».
ويشير سعد الله مفلح الذي يعيش مع سبعة من أبنائه في منزله الطيني المؤلف من غرفة واحدة لا تتجاوز مساحتها الـ16 متراً وورثها عن والده، إنه سيكون سعيداً جداً إذا تمكن من تأمين منزل بديل لعائلته «لكن هذا الأمر دونه عقبات كثيرة أوّلها الفقر»، ويضيف «لقد أخّرت الزواج لعلي أتمكن من تأمين المال اللازم لبناء منزل جديد، ولكن الزراعة لا تطعم خبزاً فكيف تعمر لي بيتاً»!
أهل قرية الخريبة غير مطلعين على تقنيات الترميم والتأهيل الحديثة. بالنسبة لهم المنزل الآمن والمريح هو المبني بالإسمنت، ومتطلبات الصيانة الدائمة تنسيهم «سهولة» العيش في هذه البيوت التي تبقى دافئة في الشتاء وباردة في الصيف! فالتراب عازل طبيعي للحرارة. لذا، وإن كان هدف الجهات المعنية حماية هذا التراث، فبإمكانهم تحويل حلم أهل الخريبة «بمنزل جديد» إلى منزل العائلة القديم مؤهلاً ومزوداً بكلّ المستلزمات الضرورية لحياة يومية كريمة. حينها، لن يهدموا منازلهم بل ستتحول حياتهم داخل جدرانها من ضرورة يبعثها الفقر إلى «ارتقاء» اجتماعي، فسكان هذه البيوت سيصبحون هم «حماة التراث».


بورتريه
«بيت من تراب» في معرض جوّال
البقاع ــ نيبال الحايك
تنظم دائرة المطالعة العامة في وزارة الثقافة معرضاً جوالاً على المكتبات العامة كلها، عنوانه «بيت من تراب». المعرض الذي يضم 11 صورة للبيوت الترابية التقليدية، وفيلماً وثائقياً مدته 12 دقيقة، ولقاءً وندوات حوارية يفتح أبوابه غداً الأحد في قرية «البيوت الترابية» في سهل بلدة تعنايل في البقاع الأوسط.
وتستغل دائرة المطالعة العامة افتتاح المعرض لاستلام طلبات مدراء المكتبات العامة بإقامة المعرض لديهم، الذي سيمثّل حافزاً لاستقطاب عدد جديد من الزوار، وخصوصاً يافعي السن، وذلك لتنمية حسّ المحافظة على الإرث الثقافي والأبنية التاريخية لديهم. والجدير بالذكر أن الوزارة تملك «نسختين» من المعرض، بحيث يمكن أن يعرض في مكتبتين مختلفتين في آن. ويرتكز معرض «بيت من تراب» على أعمال هدى قساطلي، وهي مصورة محترفة وعالمة تبحث بأصول السلالات والتقاليد البشرية وقد ركزت أعمالها خلال السنين الماضية على موضوع بيوت التراب. وقد أرشفت الكثير من المعلومات عنها، وصوّرتها لكي تبقى شاهدة على ماض قريب بعيد، كما أنّ لها كتباً عديدة عن التراث والبناء وصعوبة المحافظة عليه. أما بالنسبة لتصميم المعرض وإنتاج الفيلم الوثائقي فهما من إمضاء «دار قنبز» التي تتميز بعملها مع الأطفال في مجالات التنمية والمحافظة على الإرث الثقافي.
الجدير بالذكر أن المعرض سيفتح أبوابه في «قرية البيوت الترابية»، وهي عبارة عن متحف عن الحياة اليومية في لبنان خلال القرون الماضية. ويؤم «البيوت الترابية» في تعنايل عشرات الزوار من مختلف المناطق اللبنانية للاطلاع والعيش بضعة أيام في التاريخ الغابر لأجدادنا. وقد راعى مهندسو القرية، خلال تشييدها، كل تفاصيل بيوت الأرياف القديمة فجاءت نسخة طبق الأصل عن شكل البيوت الترابية ومضمونها، التي اجتاحها الإسمنت بدون رحمة.
وتتألف القرية التي نفذتها جمعية arc-en ciel من بيتين يضمان خمس غرف ومطبخاً وتنوراً وقناً للدجاج، إضافة إلى حمامات وساحة مرصوفة بحجر «الغشيم» ومقاعد للجلوس وسبيل مياه كرمز لعين الضيعة. كما تبرز في القرية الترابية الجدران المطلية بالكلس الأبيض والأدوات والمعدات الزراعية القديمة المنتشرة في مختلف أرجاء القرية التي كان يستخدمها الأجداد في أعمالهم الزراعية كالمنجل وجازورة الحطب ومذراة القمح والمحدلة والجاروشة... وتضم غرف القرية مقاعد خشبية وكراسيّ من القش، كما تبرز في غرف الجلوس والمنامة الأعمدة الخشبية التي تتوسط الغرف و«الليوك» أو المكان المخصص لوضع الأغطية وكوارة القمح.
للتذكير فقط، يعدّ هذا المعرض الحدث الوحيد المرتبط بالإرث الثقافي الذي نظم في لبنان هذه السنة، فوزارة الثقافة ووزارة السياحة والجمعية الوطنية للتراث غضت النظر هذه السنة عن يوميات التراث... حتى كادت تغرق في النسيان لولا معرض تعنايل.


توضيح ورد
جاءنا من رئيس بلدية رشدبين المهندس نبيل إبراهيم توضيح لمقالة نشرت في عدد «الأخبار» رقم 505 في 19 نيسان الفائت في زاوية «موقع من لبنان» تحت عنوان «معبدان رومانيان في «قصر ناووس» عين عكرين». وجاء في التوضيح أن هذين المعبدين يتبعان لخراج بلدة رشدبين في قضاء الكورة.
وأرفق إبراهيم التوضيح بصورة عن المرسوم الجمهوري القاضي باستملاك عقارات لصالح المعبد الروماني في بلدة رشدبين في عام 1962.
كما جاء في المستندات المرفقة رسالة من المدير العام للآثار آنذاك، كميل الأسمر، موجهة إلى محافظ لبنان الشمالي موضوعها «معابد قصر ناووس ـــ قضاء الكورة» بتاريخ 29 كانون الأول 1997: «إن معظم العقارات الواردة في كتاب رئيس قائمقامية الكورة القائم بأعمال بلدية رشدبين هي ملك الدولة اللبنانية ـــ المديرية العامة للآثار وتحتوي على معابد ومعالم أثرية هامة».
«وإن هذا الموقع موجود على لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بموجب القرار رقم 229 تاريخ 28 نيسان 1959، وتحميه القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، ولا سيما قانون الأملاك العمومية الصادر بموجب القرار رقم 144 تاريخ 10 حزيران 1925، وقانون الآثار الصادر بموجب القرار رقم 166 ل.ر تاريخ 8 تشرين الثاني 1933».
ردّ المحرّر:
تشكر «الأخبار» المهندس نبيل إبراهيم على توضيحه الذي صحّح المعلومات الواردة في المقال، وتلفت إلى أن كلّ المراجع العلمية التي ورد فيها ذكر قصر ناووس كانت تشير إلى تبعيته لبلدة عين عكرين.