strong>سيرة مقاتل كبر في أزقة المخيمات حالماً بساحات فلسطين
كان أحمد محمود طفلاً في الرابعة من العمر عندما وقعت نكبة فلسطين. كبر في المخيّمات حالماً بالعودة، عامِلاً من أجلها. قاتل ضد الإسرائيليين، وعندما بترت ساقه اختار طريقاً أخرى للنضال: الرسم وتعليمه للأطفال لكي تبقى ذاكرة فلسطين حية

أحمد محسن
يذكر أبو حميد، كما يعرفه أهالي مخيم برج البراجنة، جيداً السنوات الأولى في المخّيم عندما كان طفلاً. كانت الخيم آنذاك ملاذ الفلسطينيين الوحيد من العراء. لوقت طويل كان يظنّ أن سوريا تقع مباشرة خلف التلال المحيطة بالمخّيم، يذكر أيضاً أنه «لم يكن مسموحاً أن ندقّ مسماراً واحداً، وكان حلم العودة يراودنا دائماً حتى كأطفالهذه الطفولة رسّخت في ذاكرته أحداثاً دون أخرى، منها «أوّل هجمة أجنبية» يعيها وهي «الإنزال الأميركي عام 1958». في ذلك التاريخ نفّذ «عمليته الأولى» كمناضل عندما سرق سلاح أحد الجنود الأميركيين وفرّ راكضاً. لاحقوه حتى استعادوها منه لكنهم لم يضربوه «لأني كنت صغيراً». كان مجتهداً في دراسته حتى تركها في الصف السادس. بدأ أبو حميد يسمع وقتها بالفدائيين، وفي الثالثة عشرة من عمره التحق بالعمل الفدائي لأول مرة، وكان ذلك في عام 1965، حيث لم يكن أحد يهتم بالتنظيمات «كان الفدائي فدائياً، ولا ينتسب إلا لفلسطين، الحركات كانت شكلية فقط». في عام 1968، بعد النكسة «وحدهم الفلسطينيون ازدادوا تصميماً، فقد عبرت مجموعات من الفدائيين الحدود اللبنانية ـــ السورية سيراً على الأقدام عبر شتورة وعنجر، وكنت واحداً من عناصرها. في الهامة والحموري السوريتين درّب الضباط الفلسطينيون المجموعات الفدائية، واشتدت مطالبة هؤلاء بإقامة مواقع عسكرية لقتال الإسرائيليين».
الأخ أبو علي إياد كما يسميه أبو حميد كان قائده الأعلى. لم يطل الأمر حتى بدأ «تشكيل» المقاتلين. منهم من اتجه نحو الجولان وتموضع في قرى كالشجرة والمزاريب، ومنهم من انتقل إلى الجنوب اللبنانييذكر أبو حميد كل شبر في الجنوب اللبناني، لكن ذاكرته تخونه في استعادة الأسماء، باستثناء القليل منها كشبعا وكفرشوبا وبنت جبيل. «القتال كان يومياً مع الصهاينة»، وكان المحور الأهم برأيه في بيت ليف. ويذكر أن أهم العمليات هي تلك التي حصلت في بلدة مجدل سلم وقامت بها مجموعة متنوعة، ضمت في صفوفها مقاتلي الجبهتين الشعبية والديموقراطية وحركة فتح، «فشلنا في أسر جنود، لكننا أوقعنا بهم إصابات بالغة، حتى إن المدفعية الإسرائيلية قصفتهم هم أيضاً كي لا نأسر منهم».
هكذا انتهت الفترة الأولى في الجنوب، فقد انتقل أبو حميد إلى أحراج جرش في الأردن، «لحماية المخيمات الفلسطينية من الجيش الأردني»، وكان رياض عواد آنذاك قائداً له. هنا يستفيض في الحديث ليصف ما جرى في الأردن أنه «الأبشع في تاريخ فلسطين بعد النكبة، حيث تعرّض الشعب الفلسطيني للذبح، فيما كان الفدائيون في أماكن بعيدة عن المدنيين كالجبال والمغاور». النتائج لا تنسى «فقد قتل من قتل وأسر من أسر، وثمة من هرب إلى فلسطين وبعض البلدان العربية الأخرى، ويرّجح أن جميع الذين هربوا قد لقوا حتفهم»، أما هو فقد عاد إلى سوريا ومنها... إلى بيروتبقي أبو حميد متنقلاً بين بيروت وجنوب لبنان، وكانت معركة البيّاضة (القرية الحدودية اللبنانية) آخر المعارك التي شارك فيها كما يقول، وبعدها لم يزر الجنوب، ولم يجمع بعض التراب من فلسطين ويحمله في جيوبه، كما كان يفعل في السابق. عام 1982 فقد رجله في اشتباك مسلح قرب الجامعة العربية مع مجموعة يعتقد أنها كانت متورطة مع المخابرات الإسرائيلية «كانت التنظيمات الفلسطينية في ذلك الحين كالعصابات، يستحيل التحقق من ولائها الفعلي». بعد إصابته سافر إلى ألمانيا الشرقية كطالب علم لكي يتمكن من الحصول على العلاج، شفيت بعض جروحه، لكن الطب لم يستطع إنقاذ رجله، فبترت بالكامل. بقي ستة أشهر ثم عاد إلى بيروت لسبب واحد: كي يبقى قريباً من الوطن.
يصرخ بالأولاد في الصالة حيث يعمل حتى يعمّ الهدوء، ويفرك عينيه جيداً، فهو يكره الحديث عن الحروب الأهلية التي شارك فيها الفلسطينيون ضد فريق لبناني، لكنه ما يلبث أن يستعيد صوراً كثيرة تجول في ذاكرته بلا رحمة، ابتداءً من الإبادة التي لحقت بمخيّم تل الزعتر، مروراً بأغلب المخيمات ووصولاً إلى صبرا وشاتيلا، «قرّرنا القتال إلى جانب الإخوة اللبنانين رغماً عنا»، لكنه لا يريد أن يبرّر كثيراً من الممارسات الرعناء والتجاوزات التي حصلت عندها، برأيه «القضية الفلسطينية أسمى من كل شيء، والمتغيرات التي حصلت في الداخل ساهمت بشكل كبير في انهيار الثورة الفلسطينية».
لا يخفي أنه يملك تحليلاً خاصاً يتعلق بالثورة تحديداً، فهو يرى أن الحرب الإيرانية العراقية أثرت بشكل كبير على العمل الفدائي، علماً أنه في السابق «لم ندخل إلى منزل في الجنوب إلا ورحبوا بنا، وكان نصف مقاتلينا من اللبنانيين». برأيه «الفلسطينيون تدخلوا في حياة اللبنانيين، وأفسدوها في كثير من المواقع، فيما كان كثير من قياداتهم منشغلاً بإطلاق رصاصة الرحمة على الثورة». عندها وصل إلى نقطة التحول، وانصرف للقتال على طريقته متفرغاً لهوايته القديمة: الرسم.
مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وجد نفسه بعيداً عن فلسطين. كانت المخيمات تنزف من الحصار، وبيروت تحترق، وهو لم يعد قادراً على التنقل كثيراً، جراء إصابته في رجله. كلّ العوامل دفعته إلى الرسم، فنجح في إقامة أوّل معرض له في مخّيم عين الحلوة في الأشهر التي تلت الانتفاضة. واصل عمله بجد، وبعد الانتفاضة الثانية أقام معرضاً في جامعة بيروت العربية حيث تعّرض للإصابة التي سببت بتر رجله.
حالياً يعمل أبو حميد على تعليم الأطفال الرسم في مدرسة الشتات لتعليم الرسم والفنون الجميلة، لأنه بهذه الطريقة يمكن للأطفال تذّكر فلسطين، شاكياً انعدام الاهتمام الإعلامي باللاجئين. ويستفيض في شرح حالة سرقة تعرض لها عندما أقدمت إحدى الجمعيات الخيرية، في غيابه، على أخذ إحدى لوحاته من مكان عمله، مقنعين زوجته بأنهم سيدفعون ثمنها. هذه اللوحة كان لوّنها الأطفال وتروي قصة النصر في تموز «صارت اليوم في أوستراليا» وفقاً لما أطلعته عليه الجمعية التي أخذتها.
الرسم إحياء لذاكرة فلسطين مقاومة أيضاً «سنتابع ولن يوقفنا أي شيء عن الرسم» يقول. ولا ينسى أن يذكّر بأنه شارك في الاعتصام أمام قناة المنار في أول أيام عدوان تموز حين تلقت المحطة الإنذار، ورفض الرحيل مع مجموعة من الأطفال رغم طلب المسؤولين عن المحطة منه ذلك حفاظاً على سلامته وسلامة الأطفال. «أرواحنا ليست أغلى من أرواحهم»... يبتسم وهو يضيف: يومها لوّحت بالعلم الفلسطيني مطولاً.


أمل مستعاد

نصر تموز
نسأل أحمد محمود عن رأيه في المقاومة اللبنانية التي حرّرت الجنوب. تغيب التعابير للحظات عن ملامح وجهه، لكنها سرعان ما ترسم عبارات الفرح. قبل أن يبدي رأيه، يعود إلى مراجعته الخاصة لتجربة العمل الفدائي «الذي كان يمكنه أيضاً تحقيق الانتصار عندما كان طليعياً، استناداً إلى جبن العدو وعدم أحقيته في الأرض». بعدها يعود إلى السؤال، فلا يخفي إعجابه وتعلّقه بالمقاومة بشخص قائدها تحديداً، ويقول بصوت مرتفع «ليت لي جناحان وأطير إلى نصر الله».
تجربة تموز أعادت إليه الأمل وأسكتت كثيراً من الشكوك التي سكنته بعد سلسلة هزائم العرب المتتالية. أبو حميد وعائلته كلها، على أهبة الاستعداد لدعم السيّد نصر الله بكلّ ما استطاعوا... لكن طلبه الوحيد «دعم الأطفال ليرسموا فقط وتبقى ملامح فلسطين مشتعلة في الوجدان».