نقولا ناصيفينتظر رئيس المجلس نبيه بري ردّ رئيس الحكومة فؤاد السنيورة على مطلب المعارضة تراجع مجلس الوزراء عن قراريه المتعلّقين برئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير وشبكة الاتصالات الهاتفية لحزب الله. بعض المعلومات الوارد إلى برّي يشير إلى أن الحكومة ستتراجع عن قراريها أو تلغيهما قانونياً بعدما ألغيا واقعياً وسياسياً، وخصوصاً في ضوء الكتاب الأخير لقيادة الجيش إليها. وهو شرط أول، يقول رئيس المجلس، للعودة بالوضع الداخلي إلى ما قبل 5 أيار، موعد جلسة الوزراء تلك. عندئذٍ يقتضي الانتقال إلى الشرط الثاني للتسوية السياسية، وهو الذهاب إلى طاولة الحوار. وبحسب «وشوشات» بلغت إلى برّي، فإن رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري وافق على الدخول في الحوار تبعاً للدعوة التي كان قد وجهها رئيس المجلس. إلا أن ذلك ينتظر إعلاناً صريحاً، بعدما كان برّي قد تبلّغ من رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط موافقته على طاولة الحوار.
وفي واقع الأمر، أضحت حظوظ العودة إلى الحوار اليوم أفضل من قبل. وفي ظنّ رئيس المجلس أنه كان في الإمكان تجنّب ما حدث في الساعات المنصرمة في الجبل لو استعجل السنيورة جمع وزراء حكومته لإلغاء القرارين، لأنه كان سيفعل ذلك في نهاية المطاف.
غير أن تطورات اليومين الأخيرين تحمل رئيس المجلس على توجيه الانتباه إلى المعطيات الآتية:
1 ــــ ما إن تلغي حكومة الغالبية قراريها وتعلن قوى 14 آذار موافقتها على مباشرة الحوار، حتى يحدد برّي فوراً موعد طاولة الحوار التي ستنعقد في جلسات مفتوحة إلى أن يتفق المجتمعون على سلة التسوية السياسية متكاملة وبلا أدنى لبس. ويقول برّي إنه لن يطيل المدد الفاصلة بين جلسة وأخرى إذا اقتضى عقد أكثر من جلسة، ولن يعلن ارفضاض الحوار إلا بعد تصاعد الدخان الأبيض على طريقة الفاتيكان. وما إن يجلس المتحاورون إلى الطاولة حتى تفتح كل الطرق في بيروت ويُرفع العصيان المدني، وكذلك يستأنف المطار الملاحة وحركته الطبيعية. وهو مؤشر إلى ارتباط هذه المظاهر بموافقة الغالبية على الدخول في حوار مع المعارضة.
يضيف برّي أنه لم يعدّل جدول أعمال الحوار الوطني الذي لا يزال يقتصر على بندين هما حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخاب. ويشير أيضاً إلى أن لا نيّة لاستغلال النتائج العسكرية في التسوية السياسية، وما كان ينادي به قبل هذه لا يزال سارياً، لأن المطلوب، يقول بري، تسوية مقبولة للطرفين.
2 ــــ أبلغ إلى القائمة بالأعمال الأميركية ميشال سيسون وإلى السفيرة البريطانية فرانسيس ماري غاي، رداً على استفساراتهما عمّا يجري في لبنان، أن تطورات الساعات الأخيرة أتاحت للحكومة المخرج المشرّف واللائق للتراجع عن قراراتها، وخصوصاً بعد بيان قيادة الجيش في هذا الشأن. وكانت الحكومة قد احتكمت إلى المؤسسة العسكرية لتحديد الموقف من قراري جلسة 5 أيار. لكن برّي لم يلمس رغبة الدبلوماسيتين الأميركية والبريطانية في إبداء موقف من الحوادث الأخيرة، وقد سعتا إلى استكشاف موقف المعارضة وخطواتها التالية، وبدتا مهتمتين بما يجري في الجبل خصوصاً.
في مقابل ذلك، استرعى انتباه رئيس المجلس ردّ فعل واشنطن على حوادث بيروت، فلم يغالِ الأميركيون في التهديد والتحذير على غرار ما فعلوا في ظروف أقل وطأة وتهديداً لحكومة السنيورة في معرض إبداء الدعم والتأييد لها، واكتفوا في موقفهم الثاني بإبداء الارتياح إلى تراجع العنف بالتزامن مع انتقادهم ما أقدم عليه حزب الله. على أن المعطيات المتوافرة عن الموقف الأميركي في بيروت تشير إلى أن سيسون أبلغت كلّ مَن استفسر منها عن موقف إدارتها من التطورات الأخيرة ومسارها المقبل، بأنها تدعم كل ما يقرّره الحريري وجنبلاط. وما يتحدّث عنه برّي يلاقيه فيه مسؤولون آخرون في المعارضة فاجأهم ردّ الفعل الأميركي على ما عُدّ انقلاباً على الشرعية التي يمثلها السنيورة، الأمر الذي حمل هؤلاء على الاعتقاد بأن واشنطن غير جاهزة في الوقت الحاضر لتحرّك حاسم في لبنان يعوّم وجود الغالبية في الحكم، وقد انهارت من تحتها الأرض، ومن فوقها القدرة على ممارسة الحدّ الأدنى من السلطة والصلاحيات حتى.
3 ــــ رغم أن رئيس المجلس لم يبد حماسة لاجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أمس، يعتقد أن نجاح الوساطة العربية الجديدة ينبغي أن يقترن بتفسير عربي موحّد للمبادرة العربية، والمقصود بذلك أن لا حلّ خارج السلة السياسية المتكاملة. وهو ما أسرّ به برّي قبل أيام للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، إذ دعاه إلى توافق الوزراء العرب على تسوية غير ملتبسة كي لا يقع الجميع في خطأ التفسير، ولئلا تخفق جهود الجامعة العربية مجدّداً.
4 ــــ فضّل رئيس المجلس لو لم تقد الساعات الأخيرة إلى نقل الاشتباكات إلى الجبل وتجنيبه ما حصل في بيروت. وكان قد أبلغ إلى جنبلاط، الجمعة الفائت، أنه في صدد تحييد المنطقة عن الصراع، وبذل البارحة في ثلاث مكالمات هاتفية مع قائد الجيش العماد ميشال سليمان، وأخرى مع جنبلاط والوزير السابق طلال أرسلان، وكذلك مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، جهوداً لإيجاد المخرج الذي اقترحه برّي وأعلنه جنبلاط مساءً بتسليم المنطقة إلى الجيش. بذلك فصل برّي الواقع الذي أفضت إليه العمليات العسكرية في الجبل عن نتائجها السياسية بما لا يسيء إلى زعامة مَن سمّاه باستمرار الحليف اللدود، إذ يبقى جنبلاط بالنسبة إليه أفضل مفاوضيه.
وللمرة الأولى، تجعل المفارقة الرجلين اللذين لم يفترقا منذ عام 1982 وجهاً لوجه في خيارات داخلية متناقضة تتصل بالسلطة والحكم والتحالفات الداخلية والخارجية وسوريا، وفي مواقع متناحرة، وتجعل تنظيميها يحملان السلاح الواحد في وجه الآخر.
يشير ذلك إلى أن الجبل لم يكن جزءاً من خطة العمليات العسكرية التي كانت قد بدأت في بيروت، ولا كان في الحسبان توجيه تهديد مباشر لجنبلاط. بدا كافياً لرئيس المجلس أن سقوط بيروت كفيل إسقاط حكومة السنيورة وسلطة الغالبية النيابية. مع ذلك لا ينكر على الأخيرة أنها لا تزال تمثّل الأكثرية النيابية.