strong>الزميلان جاد وربى عاشا قصّة حبّ غير مرتبطة بتعقيدات المكان والطوائف. قبل خطوبتهما المفترضة بيومين، استفاقا على ما يشبه حرباً أهليّة ابتعدت فيها المسافات بين الضاحية الجنوبية لبيروت حيث يسكن هو والطريق الجديدة حيث تسكن هي
جاد نصر الله ــ ربى أبو عمو

هي
انتظرت أن تحطّ طائرة والدها القادمة من المملكة العربية السعودية في بيروت. أرادت الاطمئنان إلى أن كلّ شيء يسير وفق المخطّط. لكن كل الطرق إلى المطار قُطعت يوم الأربعاء الفائت: ألغيت الرحلة. لن تلبس خاتم الخطبة في عطلة نهاية الأسبوع.
مزاحي الثقيل يثير أعصابك الباردة: «الحمد لله نجوت بأعجوبة من الإحراج». لأسبوعين شغلت نفسها واهتمّت بأصغر التفاصيل. طمأنتني: «سيكون شيئاً بسيطاً وجميلاً، أهلك وأهلي فقط». لم تطمئنّي كلماتها، فأنا أعلم أن أفكارها الرومنسية ستجعل من خطبة نهار السبت فيلماً مصرياً، حيث نجلس متجاورَين على كنبة وسعف النخيل وراءنا (...). فشلتِ باستدراجي إلى منزلك الكائن في الطريق الجديدة لأتلعثم أمام أهلك بكلمات منتقاة عن قرارنا بالارتباط. سألتك قبل انفجار الأزمة السياسية بين طائفتك السنية وطائفتي الشيعية، إذا ما كان يجب أن نأتي إلى المناسبة السعيدة بمرافقة أمنية من «الحزب»، لأن دخول 7 أفراد (أهلي) من عائلة «نصر الله» إلى منطقة نفوذ السنّة لسرقة إحدى بنات طائفتهم أمر خطير. «حبيبتي، بإمكانهم خطفنا ومقايضة أرواحنا بالثلث المعطّل للحكومة ورئاسة الجمهورية». لا تبتسمين للنكتة؛ بايخة! أعترف بأنني حين التقيتك قبل أقل من عامين لم أدرك فوراً الاختلاف الحقيقي للبيئة التي أتى منها كلُّ واحد منا. فأنا ما زلت متمسكاً بتجربتي اليسارية السابقة، ومتحمّس بشدّة للمقاومة والسيّد حسن نصر الله، لدرجة أنني طاردت شبحاً اسمه عماد مغنية لأتعرف إليه، ولم أعثر عليه إلا شهيداً. أما أنت فمحايدة، الأمر الذي استغربته صديقتي نسرين: «كيف تكون ربى محايدة في هذا البلد؟!». تغضبين مني بشدة حين أعلن لك أنني سأبقى في بيروت، لا بل سآتي إليها إن كنت مسافراً حين تشنّ إسرائيل حرباً جديدة على لبنان. أتهمك، «أنت لا تؤمنين بالقضايا الكبرى». «جاد، أنا أخاف بكل بساطة. عندي فوبيا».
قلتُ مراراً إن أوّل رصاصة في الحرب الأهلية ستجعلني أوّل الخارجين من هذا البلد، ولو زحفاً إلى الحدود. أزهقت دماء أكثر من 80 شخصاً حتى كتابة هذه السطور، وأنا مُسمَّرٌ على كرسيِّ. ربى، إنها معركتي دفاعاً عن المقاومة، لكني أجبن من أن أمسك سلاحاً أطلق منه النار على جهة مجهولة، على المبنى الذي تسكنين، مثلاً. كنت أعلم أن لمقاتلة إسرائيل أثماناً باهظة، لكني لم أنتبه إلى أن الدفع سيكون من مدخراتنا!
هو
يحتفظ بالمحابس إلى حين موعد الخطبة، رغم مبالغته في التفلّت من التقاليد. أطمأن يومياً عنهما. لم أكن أظنّ أن لهذا الأمر رهبة. شعرت دائماً بأنه ليس أكثر من حدث تقليدي، يزجّ الأهل في علاقة ليست بحاجة إلى تفاصيل إضافية. كنت مخطئة. فرهبة انتظار موعد العاشر من الشهر الجاري فاق الجمال الذي توقعته. إنها إحدى الفرص القادرة على توحيد التوحّد الذي يعتري شخصين. اكتشفا عن غير قصد أنهما مكمّلان الواحد للآخر.
كان كثير التوتّر والارتباك؛ تشاجرنا مراراً على تفاصيل خطبتنا. اشترط عدم أخذ صور في استوديو، متهكماً على سخافة أن نُجبر على الوقوف بطريقة معينة، حيث يضع لنا المصوّر خلفية لغروب الشمس أو رأس حصان، ويقترح أخيراً أن يضع صورتنا في إطار على شكل قلب...
بعيداً عن هذا النهار المحرج لكلينا، لم يفوّت فرصة التعبير عن سعادته بهذه الخطوة. لم يصنه لسانه، فسارع إلى إبلاغ أصدقائنا، رغم إصراره هو على أن لا أعلن الموضوع حتى لا يزداد توتره!
لم يعترض أحد على خطبتي أنا السنّية من شاب شيعي. أصلاً هذا لا يهمّ. إلّا أنَّ اعتراضاً سياسياً حصل، وما كان بالإمكان تجنبه. سيضحك مجدداً حين أعزو الأمر إلى السياسات الإقليمية التي هيأت الأجواء أمام الاقتتال الداخلي بين الموالاة والمعارضة، فبات يفصلنا خطّ تماس جديد، ويفرقنا بالصورة، علماً بأن منزلينا يتجاوران ببضع مئات الأمتار.
يتّهمني بأنني لا أؤمن بالقضايا الكبيرة، لدرجة قد أبدو فيها بعض الأحيان مجرّد فتاة أنانية، منفصلة عن مجتمع يحوي بشراً كثيرين، يجوعون، يحزنون، يبكون، يموت أطفالهم كما يقول... يتّهمني بالعجز عن الالتحام بالواقع والتعايش معه. أحياناً يحولني بنظراته إلى خائنة حين يدفعني خوفي إلى المطالبة بهدنة مع إسرائيل، «ولتذهب المقاومة إلى الجحيم» أقولها بغضب فتهجرني مشاعره لساعات. أنا أهرب من مجرّد احتمال هذا الواقع. خوفي مرض نفسي: أشعر بأنني الوحيدة في هذا الكون التي ستواجه المصاب، وأرفض بشدّة فكرة الموت.
يقسو عليّ بنبرة عالية ليست إلاّ خوفاً عليّ من خوفي. يمسك بيدي. يشدّ عليها كأنه يخنق نبضاتي المتسارعة. يحاول طمأنتي بحضوره. يردّد: «لا تخافي، سنسافر»، وإن لم نستطع، فإن أي شيء بات أهون من الاستمرار في هذا الوضع.
اليوم، بات هو من يبحث فيّ عن أمان يفتقده. يعاتبني بسبب انتقال مرض الخوف من الحروب لديّ إليه، وإن بصيغة مختلفة. أصبح يخاف عليّ من خوفه. يخاف أن يسرقني اللااستقرار والحرب منه، فيلاشي حلمه بأن نعيش معاً في البيت الصغير الذي يعدني به.
نحن
نحن نحب العيش ونحب المقاومة ونخاف الحرب الأهلية. وإن كان لا مفرّ منها، فلا بأس. تخلّينا لكم عن خطبتنا ولن ندخل معاً في السيارة بعد الآن إلى الطريق الجديدة ولا إلى الضاحية الجنوبية. فالأيام الماضية زرعت حقداً يثمر في نفوسنا ذعراً من التجوّل وتحسباً للانتقام بالضرب. هل تعلمون؟ سنحاول الخروج من لبنان إلى غير رجعة.