نقولا ناصيفانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية مساء غد، سبقه عام 1958 انتخاب اللواء فؤاد شهاب صاحب التجربة التي نجحت، ثم عام 1998 العماد إميل لحود صاحب التجربة التي أخفقت. وهكذا يقع انتخاب سليمان، بعد نصف قرن تماماً، في امتحان محاولتين خَبِرهما اللبنانيون واختلفوا ولا يزالون في تقويمهما. تشبيه انتخابه بشهاب ظلم له، وكذلك تشبيهه بتجربة لحود. لكن الثلاثة لم يكونوا وحدهم جنرالات الجمهورية بين الماضي والحاضر. كثر هم جنرالات الجمهورية الذين أدَّوا أدواراً مزدوجة عندما مارسوا السياسة ببزّة عسكرية، وعندما أدخلوا العسكر في البذلة السياسية.
يوم أقسم اليمين الدستورية في مجلس النواب في 23 أيلول 1958، سمع اللبنانيون للمرة الأولى صوت أول رئيس للجمهورية يخرج من صفوف جيش اعتاد الصمت والابتعاد، يخاطب النواب مميّزاً بين قيادة الجيش «حيث الصمت رفيق الواجب» ومجلس النواب «حيث الكلام هو السيّد». في ما بعد لم يعد الجنرالات، ولا الضباط الذين اضطلعوا بأدوار جنرالات، يتردّدون في الجهر بعلاقة ما مع السياسة أو الانخراط فيها. أدرك اللبنانيون ضباطاً في أدوار جنرالات، كما أدركوا أساقفة ربّوا تحت جببهم سياسيين أقوياء، كالبطريرك مار بولس بطرس المعوشي والمطارنة أغناطيوس مبارك وبولس عقل ويوسف الخوري والبطريرك نصر الله بطرس صفير. كان من طراز جنرالات الجمهورية العقيد أنطون سعد في عهد شهاب، والمقدّم غابي لحود في عهد الرئيس شارل حلو، والعقيد جوني عبده في عهد الرئيس إلياس سركيس، وجنرالات ملأوا مواقعهم، كالعماد إميل بستاني في عهد حلو، والعماد ميشال عون في عهد الرئيس أمين الجميل، والعماد إميل لحود في عهد الرئيس إلياس الهراوي، والعماد ميشال سليمان في عهد لحود. مذ تذوّق الجيش طعم السياسة للمرة الأولى عام 1952 عندما استقال الرئيس بشارة الخوري في 18 أيلول وعهد إلى اللواء شهاب ترؤس حكومة انتقالية تمهّد لانتخاب خلف له، شرّع الضباط هذه السابقة. بعد سنوات فلسفها جورج نقاش عام 1960 عندما قال في شرحه «الشهابية» إن السياسيين عندما يقعون في المأزق يستنجدون بالجيش. لم يشأ شهاب تكرار سابقة 1952، ويفتح هذا «المزراب» أمام كل ضابط بحسب عبارته، حتى «أرغمه» عليها توافق مصري ـــــ أميركي عام 1958 لإخراج لبنان من «ثورة 1958». وأخيراً كثر مَن يشبّه تلك الحقبة بالتوافق على سليمان.
لم يفت أحداً أن أصل التوافق على الرئيس عام 2008، كما في 1958، هو مصري منذ مطلع آب الماضي، قبل أن تسمي الموالاة المرشح التوافقي، لحق بركبه، حينذاك والآن، الأميركيون والآخرون المتفاوتو التأثير في لبنان في حقبتي الخمسينيات والستينيات كالسوريين والسعوديين والأردنيين والإيرانيين والفرنسيين وسواهم. صنع التوافق قائد الجيش، شهاب وسليمان، رئيساً منتخباً ولم يجعله رئيساً ممارساً إلا عندما امتحنته اللعبة اللبنانية. بعدما شعر المنتصرون في «ثورة 1958» أنهم وحدهم سيحكمون لبنان من خلال شهاب، انتفضت «الثورة المضادة» بزعامة بيار الجميل. وعندما شعرت قوى 14 آذار بأنها ستحكم لبنان بغالبيتها والدعم الدولي بمرشحها التوافقي، قلب حزب الله التوازنات رأساً على عقب. كانت حكومة الأربعة عام 1958 صورة مصغرة عن حكومة الـ30 التي رسم اتفاق الدوحة ملامحها فجر الأربعاء الفائت (21 أيار). في حكومة الأربعة، لكن لكل من رشيد كرامي وبيار الجميل المتورطين في «ثورة 1958» حق النقض مقدار ما للوزيرين الآخرين الأقل تورّطاً أو ابتعاداً عن نار تلك الثورة كالرئيس حسين العويني وريمون إده. لكن رئيس الجمهورية كان أقوى الوزراء الأربعة لأكثر من سبب: أولها التوافق الإقليمي والدولي الذي حمى موقعه على رأس الدولة حكماً يُنظر إليه بتقدير، وسيحوز الدور نفسه في ما بعد سركيس عام 1976. وثانيها أن الجيش اللبناني كان أقوى الأفرقاء اللبنانيين من غير أن يحرق أصابعه في نزاعاتهم، وثالثها أن الوزراء الأربعة نظروا باحترام ـــــ هو المعيار الأساسي أولاً وأخيراً ـــــ إلى الرئيس. وخامسها أنهم كانوا فعلاً يريدون الخروج من آثار «ثورة 1958» و«الثورة المضادة» سياسياً وطائفياً واجتماعياً.
لعلّها العبرة الأولى مما بقي من تلك الحقبة قبل 50 عاماً. إذ سيجد الرئيس الجديد نفسه محاطاً بكمية كبيرة من هذه الذكريات، وقد أضحى محوطاً بأبناء تلك الحقبة وورثتها، بالمشكلات نفسها تقريباً، كنفوذ الخارج في الداخل والمصالحة الوطنية وتقاسم حصص السلطة. سيكون محوطاً بأكثر من كرامي والجميل وإده والعويني وكمال جنبلاط والرؤساء كميل شمعون وأحمد الأسعد وصائب سلام وسواهم.
وبعيداً من أي مقارنة ظالمة للماضي والحاضر في آن واحد، سيكون أمام سليمان ما هو أدهى من ثلث معطِّل حصلت عليه المعارضة بالقوة وجعلها شريكاً فعلياً في الحكم. يحوط برئاسته مَن يقتضي أن يدير صراعاتهم السياسية وهو على مسافة متساوية منهم جميعاً، من غير أن يرجّح كفة أحد فريقي النزاع على الآخر. وكما سحب شهاب جنبلاط من «ثورة 1958» والجميل من «الثورة المضادة» وجعلهما الشهابيين الأقوى اللذين عوّل عليهما في حكمه، وكان يناديهما «الطويلين»، سيكون على سليمان أن يسحب من «ثورة الأرز» و«الثورة المضادة» صمام أمان حكم عهده. ذاك مغزى أن يكون في وسط صراع سياسي مربك يطمئنه إلى إدارته له أن التوافق الإقليمي على دوره، بعد رئاسته، سيظلّ يحمي الاحتكام إليه. عن يمينه الرئيسان نبيه بري والعماد ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والوزير السابق سليمان فرنجية، وعن يساره الرئيس أمين الجميل والنائبان وليد جنبلاط وسعد الحريري ورئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع. من فوقه سقف الرياض ومن تحته بساط دمشق.
باستثناء شهاب، الذي صنع التوافق الدولي رئاسته، ولحود، الخيار المحض سوري، كسرت الغالبية الشهابية واستخباراتها العسكرية عام 1970 طموحات العماد إميل بستاني في الرئاسة بعزله من القيادة. وكسر التوازن الدولي عام 1989، والداخلي عام 2008، طموحات العماد ميشال عون فيها. طمح المقدّم غابي لحود عام 1970 كي يكون صانع الرئيس فأخفق، وشاع اسمه للمنصب بعض الوقت عام 1982 وانحسر. وبهر العقيد جوني عبده عام 1982 الرئاسة بمشاركته وسركيس في إيصال الرئيس بشير الجميل إلى هذا الموقع فنجحا.
إنهم جنرالات الجمهورية.