نقولا ناصيفعكست نتائج الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها الرئيس ميشال سليمان أمس صورة الانقسام الحاد في مجلس النواب بين الموالاة والمعارضة، ووضعت تأليف الحكومة الجديدة أمام مخاض صعب. إلا أنها أبرزت في الوقت نفسه ثلاث ملاحظات:
1 ــــ لم يُفوّض أيّ من النواب إلى رئيس الجمهورية أصواتهم لتسمية الرئيس المكلّف للحكومة، على نقيض ما حصل في 27 تشرين الثاني 1998 عندما اعتذر الرئيس رفيق الحريري عن عدم ترؤس أولى حكومات عهد الرئيس إميل لحود بسبب تفويض 31 نائباً إلى الرئيس خيارهم في تسمية الرئيس المكلّف. ومع أن الحريري كان قد حاز حينذاك 83 صوتاً رشحته بما يلامس ثلثي البرلمان، عدّ التفويض غير دستوري، ولم يقبل بتجيير لحود الأصوات الـ31 له، أو في أحسن الأحوال اعتبارها لاغية. رفض الحريري واعتذر عن عدم تأليف أولى حكومات ذلك العهد. لم تكن تلك المرة الأولى. في 20 أيار 1995 فوّض 27 نائباً إلى الرئيس الياس الهراوي خيار تسمية الرئيس المكلّف بينما نال الحريري 77 صوتاً. لم يعترض الأخير بعدما كان الهراوي قد قرّر عدم إدراجها في حساب الأصوات المستفتاة. كان الفارق بين التفويضين هو فارق علاقة الرئيس السابق للحكومة بكل من الهراوي ولحود، مع أن التفويض في أي حال هو إجراء غير دستوري لا يسع رئيس الجمهورية التسليم به لكون الآلية التي رسمتها المادة 53 لتسمية الرئيس المكلّف للحكومة تلزم النائب الإدلاء بموقفه إيجاباً أو سلباً. وسواء ألحّ سليمان على النواب تسمية مرشحهم لرئاسة الحكومة أو لا، واقع الأمر أن حدّة الانقسام الحالي استثنت موقع الرئيس الجديد من الاشتباك السياسي بين متشبّث بترشيح الرئيس فؤاد السنيورة لرئاسة الحكومة ورافض له. ولأن أيّاً من الطرفين لا يجد فيه ضماناً مباشراً لموقعه هو في معادلة الحكم، كان تصويت النواب أمس بين مَن مع ومَن ضد.
يقترن ذلك أيضاً بالدور الذي حدّده اتفاق الدوحة لرئيس الجمهورية في توازن القوى داخل حكومة الوحدة الوطنية. وزراؤه الثلاثة لا يضيفون إلى المعارضة قوة ما دامت هذه تمسك بنفسها الثلث الزائد واحداً لامتلاك حق النقض في مجلس الوزراء، ولا يضيفون إلى وزراء الموالاة الـ16 أي جدوى لكونهم لا يكمّلون نصاب الثلثين في القرارات المصيرية. الأمر الذي سيضع الرئيس بين نقيضين حادين، لا شك في أنه سيختبر سلبيتهما في الساعات المقبلة مع مباشرة مساعي تأليف حكومة الوحدة الوطنية.
2 ــــ كان الاتجاه في استشارات البارحة محدّداً وموجّهاً بين كتلتين نيابيتين لم تتوسطهما قوة ثالثة. ورغم استفاضة الموالاة والمعارضة ومغالاتهما في الإشادة بسليمان رئيس الإجماع، فإن المواقف التي أحاطت بتسمية السنيورة وقعت بين حدّي مَن يتشبّث بترشيحه ومَن يرفضه من خلال الامتناع عن التسمية. يتطابق الامتناع هنا مع وظيفة الورقة البيضاء في الاقتراع السرّي، يُحتسب في عداد الأصوات ولا يُعدّ لاغياً. وهكذا يكون قد صوّت للسنيورة ــــ ما دامت التسمية في استشارات نيابية ملزمة أقرب إلى انتخاب غير مباشر ــــ أقل من نصف النواب بقليل، وأيّده أكثر من نصف النواب بقليل. وهو أمر يكرّس رئيس حكومة الوحدة الوطنية طرفاً مباشراً في النزاع ورئيساً لوزراء الفريق الذي يمثّله أكثر منه رئيساً لمجلس الوزراء في وسعه التسلّح بثقة وزرائه من أجل الاستغناء عن حضور رئيس الجمهورية جلسات مجلس الوزراء.
ولأنه كذلك، فإن حصول المعارضة على الثلث الزائد واحداً في الحكومة الجديدة بدا بدوره أقرب إلى الضمان الفعلي الذي تنشده كي توازن به صلاحيات رئيس مجلس الوزراء. وقد يكون هذا ما عناه الرئيس ميشال عون أمس، وهو ينبئ بأيّ حال ستكون عليه حكومة الوحدة الوطنية. يصرّ على المشاركة في الحكومة ويمثّل المعارضة من داخلها، من دون تأييد رئيس الحكومة. بذلك تريد المعارضة أن تنتزع من قوى 14 آذار سلطة فعلية في الحكم خبرتها في السنوات الثلاث، وتجعل تمثيلها الغالبية النيابية غير ذي جدوى في مجلس الوزراء، وتفصل تماماً تأثير تلك الغالبية على قرارات حكومة ستكون عندئذ أبعد ما تكون عن حكومة الوحدة الوطنية. بل لعلّها ستكون عندئذ أقرب إلى مثيلاتها السابقة التي حملت اسم حكومة وحدة وطنية أو إنقاذ وطني، نيطت بها مهمات استثنائية لمواجهة الأزمات الداخلية، فإذا بها تنفجر من الداخل. كانت تلك حال ثاني حكومة استثنائية للمواجهة عام 1968 مع الحكومة الرباعية برئاسة الرئيس عبد الله اليافي، وحكومة الإنقاذ الوطني السداسية عام 1975 برئاسة الرئيس رشيد كرامي في مواجهة خصمه اللدود الوزير الرئيس كميل شمعون، وحكومة الوحدة الوطنية العشرية عام 1984 برئاسة كرامي أيضاً، وضمّت وزراء من أوزان شمعون وبيار الجميل وعادل عسيران ونبيه بري ووليد جنبلاط وجوزف سكاف، وانفجرت بدورها في وجه الرئيس أمين الجميل.
وما خلا أولى حكومات الإنقاذ الوطني، الرباعية عام 1958، برئاسة كرامي في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب، كل حكومة وحدة وطنية تبدأ بحسن نيّات انبثقت من توازن قوى جديد على الأرض قبل أن تنفجر بعد أشهر. ولولا سوريا، القابضة على الوضع اللبناني عام 1990، لكانت انفجرت باكراً حكومة الاتحاد الوطني برئاسة الرئيس عمر كرامي. مع ذلك قادتها دمشق إلى الانفجار بعد سنتين في ثورة الدواليب.
3 ــــ رغم الحق المشروع الذي تجيزه المادة 53 لقوى 14 آذار، كممثلة للغالبية النيابية، في تسمية مرشحها لرئاسة الحكومة، فإن التصريح المسهب الذي تلاه السنيورة بُعيد تكليفه كان بمثابة بيان وزاري تطرق إلى مواقف سياسية مهمة وخيارات لا يجيزها له التكليف في ذاته، ويحاول إلزام رئيس الجمهورية سلفاً بما يفترض أنه لم يخض فيه مع الرئيس المكلّف بعد، ولا الرئيس المكلّف مع المعارضة شريكته في الحكومة.
إذ ليس كل تكليف آيل إلى تثبيت المنصب شأن ما جرّبه أسلاف كبار للسنيورة، كالرؤساء صائب سلام ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح ورفيق الحريري.