strong>راجانا حميةبعد أسبوعين من إطلاق «صندوق الفرح» لمعالجة الأطفال المعوزين، يخضع اليوم الطفل عباس طهماز لعملية جراحية قد تشفيه من إعاقته... وينتظر ثمانية أطفال آخرين دورهم للاستفادة من صندوق فتحه صراع طفلة مع المرض والفقر معاً
اليوم يترك عبّاس طهماز (4 سنوات) منزل جدّته. لن يحمل معه شيئاً، باستثناء كرسيٍّ لم يفارقه منذ ولادته وصورة أمّه، التي لن تكون حاضرة في غرفة العمليّات. فهي «ستدعو له»، كما وعدته الجدّة، من سريرها المجاور لغرفته في المستشفى لأنّها لن تقوى على مرافقته، فهي غارقة في سباتها منذ ثلاثة أشهر.
الأمّ تلوذ بالصمت القاتل، والطفل الذي لم تعد لديه القدرة على تحمّل هذا الصمت يحمل اليوم أمتعته وحده إلى الغرفة ليُجري عمليّة لقدميه المشلولتين من دون أن يحظى بقبلة قبلها. لا بأس، فقد اعتاد عبّاس غياب الوالدة علياء... كما تحاول الوالدة فاطمة المرعي اعتياد رحيل وحيدتها فرح. غير أنّ ما قد يكون مختلفاً بين الاثنين أنّ عبّاس الذي يفتقد الحضن الدافئ منذ أشهر، يجد في يوم علاجه من يحضنه، أقلّه بالمال الذي ما كان الوالد قادراً على تأمينه من عمله في «كسر السيّارات»، أمّا فرح، فقد ماتت لأنّها لا تملك ثمن الدواء.
قصّة هذه الصغيرة التي كان اسمها فرح (13 عاماً) كشفت، بعد موتها، عن أطفال آخرين فقراء لا يملكون أيضاً ثمن الدواء ولا الحقّ في السؤال عنه. جلّ ما يحظى به هؤلاء دموع يذرفونها كلّ يوم وشريط فيديو لإحدى القنوات التلفزيونيّة يؤرّخ ألمهم من دون أن يكون له «محلّ من الإعراب». إلّا أنّها، قبل أن ترحل، أودعت اسمها في صندوق لرعاية هؤلاء الذين يشبهونها في مرضها وألمها وفقرها، ومنهم منال عدس وفاطمة المحمّد ومحمّد غصن وعبّاس... الذين لا يعرفون عنها سوى الاسم والابتسامة فقط. لكن من هي فرح؟ وكيف نشأت فكرة الصندوق الذي يحمل اسمها؟
مرة أولى... وأخيرة
ذات يوم، ظهرت فرح في أحد البرامج التلفزيونيّة تحملها والدتها بين يديها. وجهها الأسود، الذي تكاد تختفي ملامحه بسبب السرطان الذي أصابها في شهرها الحادي عشر، لم يكن يظهر منه سوى بياض عينين لا تريان وفم مفتوح دوماً على الصراخ.
قبل تلك المقابلة، كانت فرح تسكن في بلدة البرغليّة الجنوبيّة مع والدها، فيما كانت والدتها تقضي أيّامها متنقّلة بين المدرسة التي كانت تنظّفها في الصرفند مقابل 300 ألف ليرة، والمنزل، حيث تتناوب مع الوالد على حمل فرح. خلال الأعوام التي عاشتها، لم تكن فرح تتكلّم، إذ أفقدها السرطان النطق بعد إصابة الأوتار الصوتيّة، كما شلّ معظم حركتها... باستثناء يدين يجبرهما الألم على الحراك بسرعة تفوق قدرة جسدها.
مرّة يتيمة ابتسمت فيها فرح، على سرير المستشفى حيث قضت أيّامها الأخيرة. حينما شعرت بأنّ ثمّة فتيات من عمرها يقبّلنها ولا يَخَفْنَها، فكانت تحسّ للمرّة الأولى بمعنى اسمها... وللمرّة الأخيرة أيضاً.
في الليلة الأخيرة لفرح، كتب مدير مستشفى بهمن علي كريّم كلمة لها «يا من لبّيتم نداء فرح (...) تعالوا نلتقd على الحب والعطاء ليشعر كل طفل في العالم بأن فرح أرادت أن تكسر الجدار الأخير بين السقم والعافية». لم يكن الأمل كبيراً في أن تتخطّى فرح ليلتها، فالكلّ على يقين بأنّها كانت تلفظ أنفاسها الباقية، إلى أن كانت النهاية في اليوم التالي في غرفة باردة فوق سرير أبيض، مختبرةً النوم للمرّة الأولى.
لم يعد هناك «فرح». خفت البكاء، والأمّ التي اختلطت مشاعرها بعد موت طفلتها، تلوذ بصمت لا يشبهها أو يشبه حياتها معها. لكن كريّم لم يكن يريد أن تنتهي «فرح» عند هذه الحدود، فبدأ التفكير في مرحلة جديدة من العمل: «توفّيت فرح، ولكن لا يمكن أن تنتهي قصّتها هنا».
في البداية، قرّر كريّم بمساعدة بعض الأصدقاء تقديم معونات إلى الأهالي أو مفروشات على أن تحمل اسم «مفروشات الفرح». فكرة «باهتة»، لم تجد الدعم الكافي، فهي لا «تمسّ في العمق». وبين فكرة وأخرى، استقرّ الرأي على إنشاء «صندوق الفرح» الذي يهدف إلى مساعدة أطفال يشبهون فرح في مرضها ولا يجدون المال ولا الضمانات للعلاج.
دموع... فوردة
بعد وفاة فرح بخمسة أيّام ولدت الفكرة ولعبت المصادفة دورها خلال زيارة كانت تقوم بها مهندسة ديكور للمستشفى، فرسمت لصندوق فرح الشعار وهو عبارة عن «أربع دمعات شكلت وردة. قد تصبح كبيرة وتنمو إذا تكاتف الناس لأجلها».
بعد أسابيع قليلة على إطلاق المشروع (25 آذار ــ مارس الفائت)، استقبلت المستشفى 9 حالات تنوّعت ما بين «الباردة» و«الطارئة». الحالة الثانية تسمّى أيضاً «إنقاذ نفس» ولا تستطيع معها إدارة المستشفى والأطبّاء سوى القيام بأحد أمرين: إمّا معالجة الطفل أو تركه يموت. أمّا الحالة الباردة، فيلفت كريّم إلى أنّها «تتحمّل بعض الإجراءات الروتينية، رغم ادّعائنا أنّنا لا نرجع طفلاً خائباً». وفي هذا الإطار، تتّخذ إدارة المستشفى بضعة إجراءات قد تكون روتينيّة، لكنّها ضروريّة من أجل ضمان التوزيع المناسب للتبرّعات، ومنها البحث المفصّل في المحيط والوضع العائلي والحالة الصحّية ومدى خطورتها، على أن يتمّ توثيق وتسجيل كل تلك المعلومات، بالتعاون مع جمعيّة المبرات الخيريّة الإسلاميّة، ضمن ملفّات خاصّة بكلّ طفلstrong>بطاقة الفرح
تنتهي الإجراءات الروتينيّة بإعطاء الأطفال الذين «ثبت عوزهم» بطاقة الفرح. هذه البطاقة التي «تسهّل مهمّة حاملها» لم تحظَ بها الصغيرة حين كانت تحتاج إليها، وماتت قبل أن تولد بطاقتها. خسرت تجربة «الخطّ العسكري» التي يختبرها اليوم الأطفال التسعة الذين جرى توثيق حالاتهم. ويلفت كريّم إلى أنّ «البطاقة لن تعمّم على جميع الناس، فهي خاصّة بالأطفال ذوي الحاجات الطارئة، مما يعفي الأهالي بذل ماء الوجه لقاء الحصول على مساعدة».
لكن ثمّة استثناءات للبطاقة، بقدر المحاذير التي تعترضها، إذ تتضاءل قيمة الاستفادة من الصندوق إذا كان طالبها مضموناً وقد تؤمّن تبرّعات الصندوق «ما تستثنيه وزارة الصحّة من حساباتها، مثل التجهيزات الطبّية». في مقابل تلك الاستثناءات، تخاف الإدارة من قدرة استيعاب المستشفى للحالات المرضيّة، وهي تحصر استقبالها للحالات الباردة بتأمين أمكنة لها والقدرة على المعالجة. ففي «بهمن» طابق واحد مخصّص للأطفال ومؤلّف من 29 سريراً فقط «والحالات في تزايد مستمرّ» وهذا ما دفع بكريّم إلى «استعارة» بعض الأسرّة من طوابق المرضى البالغين، إلى حين تجهيز الطابق الإضافي للأطفال.
الدولة على عادتها
غير أنّ المشكلة لا تقتصر على قدرة استيعاب المستشفى للأطفال المرضى، إذ تتحمّل الدولة مسؤولية أكبر في هذا المجال. فهي تفرض شروطاً تعجيزيّة لضمان الأفراد في ظل ارتفاع كلفة الفاتورة الصحّية، إضافة إلى تهرّبها من تسديد ما عليها للمستشفيات، فمستشفى بهمن وحده «له في ذمّة الدولة ما يقارب 16 مليون دولار، لم تلتزم سدادها إلى الآن».
في هذا الإطار، ثمّة أسئلة كثيرة على الدولة الإجابة عنها، ليس أقلّها السؤال الذي يشغل بال والدة ليا رزق، طفلة أخرى لا تجد من يحميها من الإعاقة: «أين هي حياة أولادي وحقوقهم على دولتهم؟».
وبعيداً عن «صندوق الدولة»، يعتمد صندوق فرح على مورد وحيد هو التبرّعات، المحصورة بمكانين، كما يوضح كريّم، «الأوّل في المستشفى نفسه، بحيث يجري الدفع في أمانة الصندوق لحساب صندوق الفرح، والثاني في «بنك لبنان والمهجر، حارة حريك»، على أن يُعطى المتبرّع في كلتا الحالتين إيصالاً باسم فرح».
فرح لم تعد هنا. لكن هناك تسعة آخرين مثلها (نعرفهم على الأقل): كريم رزق الذي عاش أربعة أشهر «ع التقنين» لأنّه لم يكن قادراً على الأكل من دون «شفّة وسقف حلق» وشقيقته ليا التي تعاني بطأً في النمو. فاطمة المحمّد ومنال عدس وعلي زعيتر ومحمّد غصن، وأخيراً محمّد علي وزينب اللذان وجدا مرميين في الشارع. هؤلاء جميعاً وآخرون يحتاجون إلى «فرح» وإلى ما حُرمته يوماً.


بعض من فصول المعاناة
مي الزين
«ابني يحب القراءة كثيراً، أرجوكم لا تذكروا اسمه في هذا التحقيق فقد يقرأه». هذا ما تبادرنا به والدة طفل في الثالثة عشرة من عمره قصدناه في طابق مخصص لعلاج أورام الأطفال في أحد مستشفيات بيروت. هو لا يعرف حقيقة مرضه، يقول واثقاً بأنه في المستشفى «لأنني أعاني ارتفاعاً في الحرارة وضعفاً في الدم». هو واحد من مئات الأطفال الذين يعيشون آلاماً في عمر مبكر. حظي بنعمة العلاج، لكن المعاناة لا تتوقف عند هذا الحد ولا تختصر كلمات الأهل ما يعيشونه وأطفالهم مع مرض يحتاج بالدرجة الأولى «إلى الإيمان بالله» كما تقول الوالدة.
قبل عامين اكتشفت إصابة طفلها «دخل إلى المستشفى لإجراء عملية «لحمية» وبعد التحاليل أمر الدكتور بعدم إجراء العملية له لأنه مصاب بسرطان الدم». يومها «لم يقوَ زوجي على إخباري وترك المهمة للدكتور. شعرت بأن الحياة لا تساوي شيئاً». بعد سنتين من العلاج «أصبح أملي كبيراً جداً، فكما رأيتم، صحته تحسنت كثيراً. لم يعد يتقيأ كالسابق، أصبح مثله مثل بقية الأطفال، وبعد سنة واحدة ينتهي العلاج إن شاء الله». في غرفة أخرى، نلتقي سيفين بركات (8 سنوات) التي عاشت مع مرض سرطان الدم منذ حوالى ثمانية أشهر ،حين لعب القدر لعبته معها «أنقذها ولم ينقذها» تقول عمتها ضحى، التي تجلس بجانبها «منذ ثمانية أشهر تعرضت سيفين ووالدتها لحادث سير دخلتا على أثره إلى المستشفى لإجراء تحاليل لها على سبيل السلامة، خوفاً من حصول نزيف داخلي، وفي المستشفى أخبرونا أنهم غير مرتاحين لنتائج الفحوص... وبدأ المشوار». الطفلة لا تعرف شيئاً عن مرضها، إلّا أنها كما تقول عمتها «وضعناها بالجو وقلنا لها إنها تحتاج لكي تشفى إلى أن تفقد شعرها، وأن وزنها سيزيد بعض الشيء». هذا العلاج حرمها الذهاب إلى المدرسة هذه السنة. تقول سيفين «أدرس في البيت ولا أرى رفاقي أبداً» مبدية انزعاجها من هذا الأمر، وقوتها على تحمّل الإبر «التي ستعيدني قوية».