جان عزيزيجزم «حزب الله» بأن الحل الجذري والنهائي لمسألة سلاحه، يكمن في قيام الدولة، قبل أن يعطي توصيفات تفصيلية لتلك الدولة الحل. أما الحريرية السياسية فتؤكد أن كل غايتها في المرحلة الراهنة هي إعادة بناء الدولة. وليد جنبلاط يطرح نفسه من جهته، حارساً لهيكل الدولة المتداعي، بعد استعادته من الشدق السوري. أما المسيحيون فيجمعون على أن الدولة وحدها هي الضمانة لوجودهم ومستقبلهم في هذا الكيان، وسط سلسلة المخاطر الذاتية والموضوعية التي تتهدّدهم.
قد لا يكون أيّ من مواقف الأطراف هؤلاء مناورة. وقد لا يكون أيّ منهم مخادعاً في موقفه. فالمسألة في تناقضها تكمن في مفهوم الدولة لدى كل من الجماعات اللبنانية المعنية، وهو مفهوم يمثّل في جوهره نتاجاً لوجدان الجماعة وتاريخها وعلّة وجودها ومتخيّلها الاجتماعي ــــ السياسي النهائي.
ليس في الأمر غرابة إطلاقاً. لا بل تبدو المفارقة أقرب إلى واقع الماركسية في تحديداتها النظرية الأولى. فماركس لم يكن يجد في «الدولة» غير إحدى البنى البورجوازية «المغرّبة» للفرد. ومع ذلك، لم تنتصر الماركسية ــــ اللينينية، إلا عندما أصبحت دولة.
الأمر نفسه موجود بدرجات مختلفة وخلفيات متباينة ومتمايزة، لدى الجماعات اللبنانية، المُجمِعة على ضرورة قيام الدولة، والمتصارعة عليها في آن.
ففي الجانب السنّي ثمة مفهوم تاريخي واحد للدولة، هو الخلافة. حتى إن المؤرخين والعارفين لا يزالون يؤكدون أن لحظة إلغائها على يد مصطفى كمال سنة 1924، لا تزال مؤسسة للسلوك السنّي الواعي وغير الواعي في كل أصقاع «الأمة». فالدولة سنّياً، هي أقرب إلى مفهوم «صاحب الدولة». وهي صهرية المستويات كلها، إنْ عقيدياً بين «المقدَّس» و«الزمني»، وهو ما يجسّده أفضل تجسيد لقب «أمير المؤمنين»، أو دولتيّاً، لجهة الدمج بين مؤسسة الدين ومؤسسة الدولة (لماذا لا إكليروس لدى السنّة بل مجرد موظفين لدى «الدولة»، يتقدمهم موظف لا غير، هو «مفتي الجمهورية» المعيّن والأجير؟!)، أو لجهة السلوك السياسي والمجتمعي لناحية قولبة كل أنشطة الشأن العام في بوتقة «الدولة ــــ الخلافة» الصاهرة والتذويبية. فلا مجتمع سياسياً ولا مجتمع مدنياً ولا جدلية مجتمع وسلطة أصلاً.
هكذا تتجلى «الدولة»، لا في فكر الامتداد الواقعي لهذه العقيدة في لبنان، بل في التصرف والسلوك والخطوات والأداء والنهج.
أما الجانب الشيعي، فيملك مفهوماً للدولة، هو أقرب إلى «رد الفعل» عليها وحيالها، أكثر مما هو اختيار متبلور لمفهوم تفصيلي. «الدولة» شيعياً، تبدو مزيجاً من «سلطة الاضطهاد» القائمة في مركزية «خلافة» ما، التي تدفع الجماعة إلى الأطراف، ومفهوم طوباوي ليس من هذا الزمان، وخصوصاً في ظل عقيدة «الغيبة» و«الانتظار».
هكذا يبرز في الوجدان الشيعي، ربما، ميل دفين إلى رفض «الدولة»، لأنها الخلافة المضطهِدة المركزية تاريخياً، ويبرز فيه اقتناع أعمق بأن البديل من هذه «الدولة»، هو نضال دائم أبدي، صوب «الدولة القادرة والعادلة»، التي لن تكون في هذا الزمان، ولن تكون قبل عودة «صاحب الزمان».
تبقى «الدولة» درزياً. في الكتابات والنصوص، تبدو المسألة شائكة مشوبة بالكثير من الأحاجي والأسرار. غير أن القراءة التي قدمها الباحث الدكتور جورج شرف للإمارة الشهابية، تبدو الأكثر إضاءة على هذه «الدولة». ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، جاء بشير الشهابي حاملاً مشروع دولة من عنصرين اثنين: توحيد القضاء والشرطة في إمارة الجبل. قبِل الموارنة ورفض الدروز، فانفلع الوجدان السياسي لجبل لبنان مذذاك. وظل الدروز خارج هذين المفهومين للدولة، حتى دخل وليد جنبلاط إلى قصر بيت الدين وخاطب جدّه قائلاً: ها قد عدنا يا بشير جنبلاط. هكذا تبدو «الدولة» درزياً، أقرب إلى مفهوم «الديموقراطية التراتبية»، التي فصّلها شرف في أبحاثه، حيث الجماعات مراتب، لا متساوية، وإلاّ لا دولة ولا من يجتمعون.
وحدهم المسيحيون، حملوا منذ أواخر القرن السادس عشر ثقافة «دولة» ما. لا بسبب ذكائهم أو حداثتهم المفرطة، بل لمجرد المصادفة بين ولادة «الدولة» في الغرب على طريقة وستفاليا، وانفتاح الموارنة على الحاضرة البطرسية بعد مدرسة روما، وصولاً إلى «دولة» الانتداب، في ظل ازدهار مفهوم الدولة القومية غربياً. غير أن ثلاثين عاماً من الحرب لم تُبقِ من مفهوم «الدولة» مسيحياً، إلا ظاهرة «دولة ميشال المر» ربما.
قاتمة هي الصورة لمن يبحث عن «الدولة» في لبنان. وقد تكون البداية في تلمّس نوع من «لويا جرغا»، على طريقة كابول، لكن من دون احتلال. أصلاً أفغانستان مثل لبنان، «دولة ــــ حاجز»، وتنتظر مثلنا زمناً أفضل لمفاهيمها، قبل أي شيء آخر.