جوان فرشخ بجاليشعب كتب المؤرخون عن أفراده أنهم لصوص وقطّاع طرق. وقد بقي الارطوريون يحملون تلك الصفات إلى أن قرّر علماء الآثار دراسة تاريخهم وكشف النقاب عن حقيقتهم
لو سُئل أحدهم: من سكن لبنان تاريخياً؟ لأتى الجواب مع التأكيد: الفينيقيون.
فحتى الماضي القريب، كان المؤرّخون يكتبون تاريخ لبنان على أساس تاريخ سكان مدن شاطئه. ولكن مع تطوّر علم الآثار، بدأت ملامح جديدة في علم التاريخ تظهر. فماذا لو أن سكان الجبل والداخل كان لهم تاريخ آخر، أو إنهم كانوا يعدّون شعباً آخر؟ ومن هم؟ إنهم الارطوريون (Les Ituréens) شعب نعت المؤرخون القدماء أهله بـ«اللصوص وقطّاع الطرق»، وعدّوهم من أصل عربي.
محاولة تسليط الضوء على هذا الشعب، الذي يبقى حتى اليوم غامضاً، كانت في متحف الجامعة الأميركية، خلال محاضرة نظّمتها جمعية أصدقاء المتحف، وألقاها الباحث الفرنسي جوليان أليكو المختص بالحياة الدينية في لبنان خلال الفترة الرومانية.
حاول أليكو أن يظهر العقبات التي تحول دون إعطاء إثباتات حسية عن هذا الشعب الذي لم يذكره التاريخ قبل القرن الثاني قبل الميلاد. «ففي تلك الفترة، بدأت سلطة السلوقيين بالتزعزع جرّاء الضغوطات الخارجية، وبدأت الشعوب التي كانت تعيش ضمن سيطرتها بالتحرّر. فعلى الشاطئ اللبناني، أعلنت المدن الفينيقية استقلالها، فيما في الجبل والداخل «ظهر» ــــ إذ ذكرهم المؤرخون للمرة الأولى ــــ شعب جديد تسلّم السلطة وعُرف بـ«الارطوريين». وإن كان صيتهم قد ذاع على أنهم قطّاع طرق ولصوص، فلأنهم في القرن الأول قبل الميلاد اقتحموا المدن الساحلية، وفرضوا سلطتهم عليها وعلى الجبل، وحصّنوا عاصمتهم كالسيس Chalcis في البقاع». وبدأ عصر الارطوريين الذي سيدوم 300 سنة... ومن بعدها سيختفي ذكرهم، ويضيعون في طيّات التاريخ.
بالنسبة إلى أليكو، عاصمة الارطوريين تقبع في أعالي تل مجدل عنجر المرتفع في السهل. ويقول إن المعبد الروماني مبني على غرف أقدم محصنة للدفاع. وتجدر الإشارة إلى أن القطع النقدية تعدّ من أهم القطع الأثرية التي تؤكد هوية ذلك الشعب. فالأمراء الارطوريون سكّوا عملاتهم وحفروا عليها رسومات لآلهتهم ونقشوا أسماءهم. وما يميّز تلك القطع قربها الفني من الثقافة اليونانية، ولكن يبقى عمقها العربي طاغياً عليها. فرسومات الإلهة أثينا اليونانية هي في الواقع رسومات للإلهة «آلات» المعروفة عبادتها عند القبائل العربية في بلاد الشامتجدر الإشارة إلى أن أحد أهمّ النصوص التي تتكلم عن هذا الشعب هي لوحة جنائزية لأحد القادة في الجيش الروماني، الذي يذكر من إنجازاته أنه حارب الارطوريين في جبل لبنان، وأنزل فيهم الخسارة. كما قامت حرب بين أبناء هذا الشعب الذي لم يستسلم بسهولة لجيوش الإمبراطور الروماني، بل جابهه لمئة عام تقريباً. ومن بعدها، أي في القرن الثاني بعد الميلاد، استتب الأمن في البلاد، و«ضاع» ذكر الارطوريين. فهل خسروا المعارك وأصبحوا من سكان الإمبراطورية فضاعت هويتهم الأصلية وربحوا الأخرى؟ وهل يشرح هذا التغيير السياسي الوجه غنى لبنان بالمعابد الرومانية في أعالي الجبال وعلى المرتفعات؟ أم أن الارطوريين بقوا في مناطقهم وأسهموا في «ورشات الإمبراطورية» تلك وخلّفوا في تلك المعابد بعضاً من الآثار الخاصة بهم؟
أسئلة يؤكد أليكو أن الإجابة عنها غير ممكنة من دون القيام ببعثات استكشافية للمواقع الأثرية الموجودة في المناطق الجبلية، التي لا تزال غير مدروسة أو حتى معروفة. ففي منطقة نهر إبراهيم، مثلاً، وخلال مواسم التنقيب في موقع يانوح، اكتشف العلماء العديد من المواقع في أعالي الجبال المحيطة بالموقع، التي يرجع البعض منها إلى العصر البرونزي (3500 ــــ 1200 ق.م) مما يعني أن الجبل كان مأهولاً منذ القدم، عكس النظريات المتوارثة التي تؤكد أن الشاطئ وحده عرف التطوّر الحضاري. ولا تزال طريق اكتشاف تفاصيل حياة الشعب الارطوري في بدايتها، ولا تزال الدراسات في نتائجها الأوّلية. ولكن من المؤكد أنه في المستقبل، ستعاد كتابة تاريخ لبنان بارتكاز فعلي على دراسات علماء الآثار وليس فقط على المؤرخين.


الفترة الهلنستية

مع وفاة الفاتح الإسكندر المقدوني، تقاسم قادة جيشه الأراضي المحتلة، وأتت مدن الساحل اللبناني والقرى المبنية في المرتفعات والداخل على خط الوسط، بين السلوقيين الذين حكموا آسيا الوسطى، والبطالمة الذين حكموا مصر، من القرن الثاني قبل الميلاد حتى وصول جيوش الإمبراطورية الرومانية سنة 64 ق.م. وخلال هذه الفترة، ترسّخت الثقافة الهلنستية (اليونانية) في المنطقة، فأصبحت اليونانية اللغة الرسمية، وباتت القطع الفنية، وحتى العملات المسكوكة في المدن اللبنانية وفي الداخل، تحمل العادات اليونانية في التصوير للأشكال والوجوه، وهذا ما يبدو واضحاً على العملات الأرطورية.