بطل 200 مباراة على مدى 66 عاماً وحسرة على تسجيلات لا يملكهاكامل جابر
أمضى «السيد» معظم ليالي عمره (1922) يؤلف الشعر ويحفظه، حتى سلبته الكتابة والسهر وميض عينيه، وقبل أن يقضيا على بصره، أطلق قصيدة الوداع عام 2004، وهي من أطول قصائده لأنها من مئة بيت. بعدها قرّر الاعتزال في دارته المتواضعة في حومين التحتا الملفوحة كل صباح بشروق الشمس من فوق إقليم التفاح. هو أصلاً لم يغادر بيته يوماً إلا لممارسة تجارة المواشي الرائجة حتى نهاية القرن العشرين (مصدر عيشه الوحيد)، وطبعاً للمشاركة في حفلات الزجل والتحدي.
تعلّم السيّد القراءة والكتابة على الشيخين عبد الله مروة وعبد المنعم «ثم على الشيخ عارف الحرّ الذي كان يبلغ العشرين، يوم أتى إلى بلدتنا وسكن فوق بيتنا. كان شاعر قريض متمكناً، ولأن صوتي جميل، بدأت أردد الشعر المغنّى في البيت، في الساحة وحتى في المدرسة، حتى إن الشيخ الحرّ حذّر والدي وقال له: إن ابنك سوف يتعطل إن بقي على هذه الحال. فردّ والدي: دخيلك بدّي ياه يطلع شاعر، وأنا مكتف في أن يختم القرآن فقط». وصار عندما يأتي ناس «ثقال» لزيارة الشيخ، يناديني ويقول «هات أسمعنا ما عندك من شعر مغنى أو ارتجاليوبحضور عدد من زواره الشعراء ومحبي الشعر، طلب الأستاذ الشيخ من تلميذه أن يرتجل موشحاً في الغزل، فصمت قليلاً ثم أنشد:
حسنك خلقه أم سرقه يا ستّ الغيد/ رصـّعت نجوم الزرقه في درّ الجيد
صفق الحضور للشاعر الفتى الذي راح يرتجل ويرتجل، وسط إعجاب الجميع؛ ومن بعدها ذاع صيته، وصار محط اهتمام المناسبات والأفراح والسهرات والأعراس.
لم يكن الاهتمام بالشعر وليد الصدفة، فقد كان والده يحلم بأن يصبح ابنه شاعراً: «طبعني المرحوم والدي بطبعه، كان يحب الشعر ويفهم به، مع أنه كان أمّياً. وكان شريكاً بالتجارة مع الحاج أسعد خليل البعلبكي، وهو بعلبكي الأصل سكن بالمنطقة وكانت له قيمة. أحبَّ والدي أن أكون شاعراً بعد أن رأى كيف أن الناس تكرّم شريكه لأنه كان شاعراً معروفاً وتدعوه إلى مناسباتها الخاصة على مختلفها، وتعدّ حضوره فيها مشرفاً لها. وقد حفظ والدي الكثير عنه وعن شعراء جيله، حتى صار حكماً في مباريات الزجل. لاحقاً «لزّمني» والدي التجارة والشعر معاً. صرت تاجر مواش معروفاً، وكنت آخذ الدفتر معي إلى الحقل وأحضره مليئاً بالشعر».
الوالدة أيضاً لعبت دوراً: «والدتي أحبت الشعر كذلك وشجعتني. كما اطلعتُ على كتب الشعراء القدامى وتعلقتُ بشعر الشريف الرضيّ، لأن كلامه معجم وتفسيره تحته. كلامه عميق، كنت أحفظه مع تفسيره، ما مكن لغتي وقوّاها، من أسماء السيف العشرين، إلى أسماء المهر والأسد وغيرها. ولأنني أحببته، كنت أحمل الكتاب تحت إبطي إلى الحقل وأعود به حافظاً الكثير الكثير. من كان يفهم الشعر قبِل فكرة تطعيمه بالعامية وأحّب الفكرة، ومن لا يعرف اللغة رفضها في البداية ثم تعوّد عليها لاحقاًصعوده الأوّل كان مع الراحل الحاج علي القماطي في سهل الغازية سنة 1938 «حكم المباراة كان الحاج يوسف غدّار الذي كان شديد المعرفة بالشعر، وقد أعجبته لاحقاً قصيدة «لماذا ميّ» المكتوبة بالفصحى أيما إعجاب؛ وعقب انتهاء المباراة، طلب الجمهور من الحاج علي رأيه في شعر السيّد، فقال:
نور الإمارة عندما قالوا انطفى/ والجـدارة طـالبتني بالـوفا/ وخيّرونـي بالإمـارة للزجل/ ما بصطفي إلا محمد مصطفى.
«وبناء على إلحاح الجمهور» ردّ السيد ببيتين:
بعهد المضى حقوق الخلافة مُنزلي/ من محمـد لَعلـي المركز خِلـي/ واليوم شَـرْع الفنّ عاكس آيتـو/ أعطى الخلافة لَمحمد من علـي.
كانت حفلات الأعراس ومآتم الحزن، منابره الشعرية الأولى «منها ما هو ارتجالي، ومنها ما يُكتب سلفاً فتغدو قوية، هنا يأتي دور الرصيد من المعرفة والحفظ، ومن يحفظ يبنِ عليه ويكثر من الارتجالي، ففي رومين، يوم وفاة علي الحاج قلت:
البين حامي عالمنارة/ صفق جناحو وطفاها/ دار حارة بعد حارة/ ودق في دار الوجاهةكتب شاعرنا لفلسطين والمقاومة كثيراً، وكان في كثير من الأحيان رائد المنابر في قصائد المقاومة ورثاء الشهداء. أما في مباريات التحدي، فكان يترك لخصمه اختيار الموضوع «إذا اختار القوة، اخترت الضعف وأتفوق عليه، في بيروت، بين النصر والكسر وقع علي الأخير، فابتدعت وخلقت خلقة فيه، اصطف الشعراء: سعيد عقل، فاضل عقل، جورج جرداق وغيرهم؛ وعندما انتهت أحاطني الجميع إلا جورج جرداق، بقي في مكانه ولم يقف، توجهت نحوه فقال: أنت لست شاعراً؛ قلت: أتيت لأصافحك، قال: أنت لست بشاعر، أنت خلاق الشعر».
يتحسر السيّد على قصائده وأشعاره المرتجلة في حفلات الزجل ومباريات التحدي هنا وهناك؛ التي بدأ ينساها ولا يمتلك تسجيلاتها «لم أكن أملك الوقت لألملم الأشرطة التي يمكن أن تؤلف كتباً، إضافة إلى أنها تحتاج إلى مال، لأن من يملك هذه الأشرطة يريد ثمنها. كأنه عليّ أن أشتري أشعاري وبعض الناس لا وفاء عندهم. ليتني أستطيع الحصول على تسجيلاتي حتى أسمعها فقط، بما أنني لم أعد أرى حتى أقرأ أو أكتب. سهرت كثيراً، ومرّت ليال لم تر عيناي النوم فيها حتى أبتدع رباعيات قصيدة. عشقت الشعر لأنني كنت أخترعه وأوفق به، كالقافية تماماً. عام 1997 جمع ابني القليل من أشعاري وأصدرنا ديواناً باسمي، وهو الوحيد من رصيد لا يعد ولا يحصى».
يقول: «رزق الله على الشعر وعلى أيامه، أنا ونايم ببكي عليه، لأجل ذلك انصرفت تماماً للدين، لقد ألهاني الشعر عن أمور الدين، ويوم كرّمني رئيس مجلس النواب نبيه بري قال: «كل ما بيكبر السيد محمد بيكبر الشعر معه»؛ فقلت: تمهل، أتت الفكرة وطلعت ببيتين:
كل ما كبرت الشـعر بيكبر معي/ هي رغبتي بتكبر أنا مش مدّعـي/ بيهجم ع فكري الشعر برجع بزعبو/ وخيط شـفافي بينفجر من إصبعي
ولا يفوت المصطفى الإشارة إلى أهمية الصوت «الذي منحني قوة إضافية. الصوت والقصيدة متلازمان. يمكن أن تغفر للشاعر صوته إذا تمكّن من القصيدة لكن العكس لا يجوز، الإبداع أن يتوافر الأمران معاً».
لم يعتمد الشعر مصدراً للعيش «هي تجارة المواشي التي أوليتها كذلك كل اهتمام، كانت مصدر رزقي الوحيد. كانت التجارة للنهار والشعر لليل، وهذا ما ذهب ببصري. أما المرأة فكانت ملهمتي في الشعر والإبداع، المرأة، حب الغواني غير شكل، أحببت كثيراً لكن بصمت، لم أكن أترك أثراً ورائي، عشقت وأخلصت، لكنني لم أجعله يتمكن مني. أحببت زوجتي التي تكبرني بأربع سنوات ولم نزل نعيش معاً، ومن أجل ذلك جاءت قصيدة «لماذا ميّ» جميلة ورائعة، أما الغزليات، فحدث ولا حرج».
يختم بتنهيدة: «يا ضيعان الشعر».


من قصائده
مثل السمك علق عاسنارة


كل يوم كنتِ تعملي زيارة
ع بيتنا عُنوي عن الحاره
عرفْت الحارة بسرّنا المكتوم
وصارت الجارة تخبّر الجاره
العزّال شغلتها علينا تلوم
وتلحّق الغاره ورا الغاره
ونحنا علينا بالدموع نعوم
بدرب المحبّه نسدّ عبّاره
ضجّت الحاره وصدّقوا المرسوم
بذنوب ما إلها ولا غفّاره
تاجرّصونا وحمّلونا هموم
بدها تجي لعندي ومحتاره
أوطبت إلها عالطريق هجوم
تاما تجي وتضلّ جباره
أفضل ما تكشفنا العيون عموم
ومتل السمك نعلق عاسنّاره