إبراهيم الأمينلا يملك دبلوماسي عربي تفسيراً لقرار المملكة العربية السعودية عدم تحديد موعد للرئيس نبيه بري. يربط استغرابه بأن للملكة سلوكاً عاماً لا يكون مرتبطاً إلى هذا الحد بالعملية السياسية، ما يدفعه إلى القول، إن الرياض دخلت عهداً جديداً من الدبلوماسية الصدامية التي تفرض عليها حسابات لم تكن موجودة سابقاً، إلى درجة أن هذا الدبلوماسي الذي خدم فترة في السعودية يتحدث عن ردود فعل غريبة تصدر عن بعض الناشطين في الدبلوماسية السعودية، ويعزو الأمر إلى تغييرات بدأت بطيئة منذ حوادث 11 أيلول، وتعاظمت بعد غزو العراق، وبدت ملامحها قاسية في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ويعتقد هذا الدبلوماسي بأن المشكلة السورية ــــ السعودية القائمة الآن، مرشحة للتفاقم ما لم تحصل السعودية على تطمينات بشأن مستقبل نفوذها السياسي في لبنان، قائلاً: إن الرياض اكتشفت، بعد مرور ثلاث سنوات على اغتيال الحريري، أن من قام بهذا الأمر، استهدفها هي قبل أي أمر آخر، وأن القدرة على إنتاج دينامية بديلة من الحريري ليست متاحة في كل وقت. بل إن تجربة فريق 14 آذار وتجربة النائب سعد الحريري تركت انطباعات سلبية لدى القيادة السعودية، ما دفعها إلى تولّي الكثير من الأمور بنفسها.
ويلفت الدبلوماسي في هذا المجال، إلى أنه منذ تولّى الحريري الأب ملف لبنان بداية التسعينيات من القرن الماضي، لم يعد في الرياض من يعيش القلق إزاء أمور كثيرة تخص لبنان، وحتى سوريا، وأن السعودية غامرت بعدد من علاقاتها اللبنانية التقليدية لأنها كانت مقتنعة بأن حصر الأمور بالحريري أو من خلاله، أتاح لها تنظيم الأمور بصورة أفضل. ولكن ما جرى الآن هو أن السعودية باتت مضطرة للدخول يومياً في تفاصيل الفريق الحليف لها، سواء داخل تيار «المستقبل»، أو الجماعات الإسلامية القريبة منها، أو حتى مع بقية القوى الحليفة لها. ويكشف أن برنامج الدعم المالي السعودي في لبنان بات يشهد لامركزية تجاوزتها الرياض بعد بروز نجم الحريري بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وهي باتت الآن مضطرة للتعامل مع الجميع بالجملة وبالمفرّق. حتى إن قوى لبنانية من فريق 14 آذار، مثل الحزب التقدمي الاشتراكي و«القوات اللبنانية» وشخصيات من هذا الفريق لها حضورها ودورها السياسي أو الإعلامي، باتت متطلّبة إزاء العلاقات المباشرة، وأن لا يتم الأمر حصراً من خلال آل الحريري. حتى داخل الفريق نفسه، وجدت السعودية أنها مضطرة للتنقل بين الحريري الابن ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وحتى مع عدد من رجال الدين المحيطين بمفتي الجمهورية، بالإضافة إلى شخصيات أخرى.
ويقول الدبلوماسي إن المشكلة الإضافية الآن تكمن في وجود أكثر من مرجعية للمتابعة في السعودية. صحيح ــــ برأيه ــــ أن القرار موحّد وأن ما يصدر عن الملك يحسم أي جدال، ولكن الصحيح أيضاً ــــ برأيه ــــ أن هناك أكثر من جهة في السعودية تتابع تفاصيل الملف اللبناني، من الدوائر المحيطة بالملك ومجموعة رجال الأعمال الذين يملكون صلات قوية في لبنان، إلى وزارة الخارجية والجهاز الدبلوماسي العامل فيها، إلى أجهزة الأمن التي تدرس يومياً ملفات عدة تخص لبنان مباشرة أو تخص بلداناً لها تأثيرها في لبنان. يضاف إلى ذلك، أن كمية المشاورات الجارية مع جهات عربية وغربية بشأن لبنان تفرض تعديلات على جدول الأعمال. وبرأي الدبلوماسي نفسه، فإن التوتر الذي يبرز في الخطاب السعودي حيال لبنان، ينطلق من توترات قائمة مع آخرين مثل سوريا وإيران ومن ملفات أخرى مثل العراق وفلسطين.
وبحسب هذا الدبلوماسي، فإن أولوية الملف اللبناني وتعدد الجهات المتابعة يخلقان تناقضات في بعض التقارير بشأن المعطيات الحقيقية. ويكشف أنه حصل أن بعث الملك السعودي محتجاً إلى القيادة السورية بأنها لم تعد تملك استقلالية، وأن إيران تدير كل الأمور، بما في ذلك العمل على حركة التشيّع في سوريا نفسها. ونقل موفد الملك السعودي إلى الرئيس السوري بشار الأسد أن لدى الملك معلومات عن تشييع نحو أربعة ملايين سوري خلال السنوات الأخيرة. وإذ جاء رد الأسد سريعاً وفيه الكثير من الاستغراب، فإن الدبلوماسي يعرض هذه الواقعة ليشير إلى أن عملية تضليل بهذا الحجم يتعرّض لها ملك السعودية من جانب عاملين معه، من شأنها أن تؤثر بقوة على موقفه وقراره، وإذا كانت العلاقات متوترة مع الطرف المعني (سوريا في هذه الحالة)، فإن رد الفعل يكون مولّداً لمزيد من التوترات، كاشفاً أن جهات نافذة في الأوساط الإسلامية تولّت تقديم توضيحات إلى السعودية عن الخطأ في هذه المعلومات. لكن أصل الأمر هو أن السعودية عبّرت عن امتعاضها من سياسات سورية استناداً إلى أمور من هذا النوع.
الأمر الآخر، باعتقاد الدبلوماسي العربي، يتصل بأن التوتر السعودي الذي يصل إلى حدود عدم استقبال ممثّل الطائفة الشيعية في لبنان، يدل على فقدان المملكة لميزة كانت تخصّها دون غيرها، وهي الصبر، دون أن يكون الأمر مستنداً إلى معطيات كافية لتبرير خطوة من هذا النوع، وخصوصاً أن أي تسوية في لبنان سوف تتطلب علاقة مع الشيعة ومع الرئيس بري تحديداً. ولكن ما الذي يدفع الرياض إلى خطوة من هذا النوع؟ يسأل الدبلوماسي ويجيب: إنه الشعور بأن مصالح النظام السعودي معرّضة للخطر في لبنان، وإن الأمر قد لا يتوقف عند هذه الحدود، وخصوصاً إذا استمر تنامي الدور الإيراني والسوري في العراق وفلسطين، فإن السعودية سوف تجد نفسها في مواجهة دول الخليج من حولها، وهي تعبّر عن طريق «فلتات لسان بعض دبلوماسييها» عن مخاوف من انتقال الضغط إلى داخل السعودية نفسها.
ولذلك، فإن الدبلوماسي نفسه يعتقد بأن أسباب التوتر الذي يعيشه فريق 14 آذار في لبنان لم يعد محلّياً فقط، ولم يعد متصلاً فقط بالرغبة الأميركية في عدم فتح حوار مع سوريا وإيران، بل يتصل أيضاً بحسابات سعودية جديدة على الآخرين التأقلم معها كأمر واقع، بمعزل عن موقفهم منها سلباً أو إيجاباً. وهو الأمر الذي قد يطول لبعض الوقت. لكن المشكلة أنه ينعكس سلباً على الواقع اللبناني الداخلي، لأنه يتجاوز حدوده السياسية مع دول تمثّل مركز الثقل في العالم الإسلامي.