نقولا ناصيفيشاطر دبلوماسيون غربيون واسعو الاطلاع في بيروت السياسيين اللبنانيين اعتقادهم بطي ملف انتخابات الرئاسة إلى أمد غير قريب، وفي أحسن الأحوال إلى الأسابيع التالية لانعقاد القمة في دمشق. وإذ يرون في ضغوط المجتمع الدولي على لبنان وسوريا، على السواء، استعجالاً لإنجاز هذا الاستحقاق، تحملهم شكوكهم على مقاربة المشكلة في نطاق أوسع من بعدها اللبناني ـ اللبناني، واللبناني ـ السوري، فيتحدّثون عن دخول لبنان في فك الصراعات العربية ـ العربية، وأخصها ما بين السعودية وسوريا. ويعزو الدبلوماسيون الغربيون وجهة نظرهم هذه إلى بضع ملاحظات، من بينها:
1 ـ أن المبادرة العربية ستستمر حيّة حتى انعقاد قمة دمشق، إذا انعقدت. وفي ضوء ما ستخرج به هذه، وحجم الإجماع الذي تعبّر عنه في بيانها الختامي من خلال حجم المشاركة فيها ومستواها، سيرتسم واقع عربي جديد لا يكتفي بكشف ملامح التسوية أو الانهيار في لبنان، بل أيضاً توازن القوى الجديد الذي قد يجعل العرب أكثر من فريق. تبعاً لذلك، ينكر الدبلوماسيون ما يعتقدون أن المعارضة تشيعه، وهو نعي المبادرة العربية. إلا أنهم يتساءلون عن مدى استعداد الدول العربية، العازمة على المشاركة أو على المقاطعة، للانقسام ـ بعضها على بعض ـ بسبب الخلاف على الملف اللبناني.
2 ـ لم تستقبل باريس بارتياح التصريحات التي أطلقها مساعد وزيرة الخارجية الأميركية المكلّف تنسيق شؤون العراق، السفير دافيد ساترفيلد، إثر لقاءات عقدها مع مسؤولين كبار في الرئاسة والخارجية في 16 شباط الفائت، منتقداً المبادرة العربية قبل أن تبادر الخارجية الأميركية في الساعات التالية إلى تصحيحها. كذلك لم تجد الدبلوماسية الفرنسية الطريقة التي عبّر بها ساترفيلد عن موقفه أمراً ضرورياً ومطلوباً حينذاك، وخصوصاً أنه أضفى عليه «إشارات استهزاء واستخفاف» أوحت بحقيقة موقف أميركي سلبي من المبادرة. مع ذلك، عدّت وجهة نظر واشنطن أنها لا تعارض المبادرة، وإن أظهرت ـ ولا تزال ـ عدم حماستها لها. وبدا في تقدير الدبلوماسية الفرنسية، يقول الدبلوماسيون الغربيون، أن ردّ فعل ساترفيلد استدرج إيضاحاً أميركياً لم تشأه واشنطن في هذا الوقت بالذات، بعدما فضّلت، مذ أطلقت المبادرة في 5 ك2 المنصرم، إحاطة موقفها منها بغموض والتباس متعمّدين، متجاهلة الترحيب بها وتأييدها، ومكتفية منها ببندها الأول الذي هو انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً جديداً للبنان. وفي واقع الأمر، قرأت الدبلوماسية الفرنسية الإيضاح الأميركي كاعتراف جزئي بالمبادرة، وإن متأخراً.
ترمي ملاحظة الدبلوماسيين هذه إلى تأكيد باريس موقفين متلازمين: أولهما مثابرتها على محض الجامعة العربية الثقة وتأييد دورها لحل الأزمة ما دام لا بديل منها في الوقت الحاضر. وثانيهما استمرار الحوار الفرنسي ـ الأميركي حيال لبنان من غير أن يصطدم بتباين جوهري في الأهداف التي رسمتها العاصمتان لدوريهما في هذا البلد مذ أطلقتا الحملة على وجود سوريا في لبنان وضرورة استعادته سيادته واستقلاله، ومن ثمّ صدور القرار 1559 في أيلول 2004.
3 ـ تجري في الإدارة الفرنسية مناقشات مسهبة، ومتعارضة في الوقت نفسه، للموقف السوري من قمة دمشق، ومدى تقدير هذه لها وكيفية إعداد نفسها لانعقادها والتعامل مع سائر الزعماء العرب من أجل ضمان مشاركة رفيعة المستوى فيها. ويتشعّب بعض آراء تلك المناقشات ليطرح تساؤلات عن استعداد دمشق للتساهل في سبيل إنجاح القمة على أراضيها، عبر تقديم تنازل يسهّل الحل، مع أن السوريين لا يتردّدون في إبراز اهتمامهم بالقمة وحرصهم على انعقادها. لكن الأمر لا يبدو بالنسبة إلى الدبلوماسيين الغربيين بالسهولة المتوقعة من كل من الرياض ودمشق اللتين فاقمتا خلافهما على الموضوع اللبناني مذ أطلقت المبادرة، فبات علنياً. منذ البداية، بدت المبادرة ملتبسة لسببين على الأقل:
أولهما، انبثاقها من قرار سعودي ـ مصري دعا إلى تدخّل الجامعة لحل المشكلة اللبنانية، وكلا البلدين يقف على طرف نقيض من دمشق في تأويل مسار الحوادث في لبنان، ولا يتفهّم مبرّرات السلبية السورية المعرقلة للتسوية ولانتخاب رئيس خصوصاً، ولا يعترف لدمشق بمصالح حيوية في لبنان، أي لا تريد الرياض والقاهرة إعطاء دمشق ما تلحّ عليه ثمناً للاستقرار اللبناني.
وثانيهما، أن كلّاً من الرياض ودمشق تصرّفت في الاجتماع الأول لوزراء الخارجية العرب، الذي وضع في 5 ك2 الماضي بنود المبادرة، وكأنهما غير مختلفتين في شأن ما يحصل في لبنان، ولا تقفان وراء هذا الفريق المحلي أو ذاك، وليستا منخرطتين خصوصاً في محاور إقليمية ودولية اتخذت من هذا البلد وأزماته ساحة تجاذب وصراع، بدءاً بالمحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مروراً بسلطة الغالبية النيابية الحاكمة وضرورة المحافظة على إمساكها بمقدرات الحكم في لبنان، وصولاً إلى سلاح حزب الله.
فإذا بسهولة الاتفاق على المبادرة العربية، بالإجماع، تحمل في ذاتها بذور انفجارها لاحقاً. انقسمت الرياض ودمشق في تفسير بنود المبادرة، ثم تناوبتا على رفض ممارسة ضغوط، كل منهما، على الفريق اللبناني الذي يتأثر بها لتسهيل التسوية الداخلية، وصولاً إلى تبادلهما اتهامات مباشرة بعرقلة هذه التسوية واستمرار أمد الأزمة اللبنانية وتعريضها لفتن مذهبية تهدّد استقرار المنطقة. ثم أتى اغتيال المسؤول الأمني البارز في حزب الله عماد مغنية في 13 شباط ليمثّل ذروة حرب الاتهامات بالواسطة بين الرياض ودمشق عبر الحلفاء اللبنانيين. اتهمت قوى 14 آذار الاستخبارات السورية باغتياله، فردّت المعارضة موجّهة اتهاماً مماثلاً إلى الاستخبارات السعودية والأردنية واضطلاعهما بدور مهم في قتل مغنية في قلب دمشق. ثم كان آخر الغيث إعلان السفارة السعودية تلقّيها تهديدات وتعرّضها لرصاص «طائش»، قد لا يكون كذلك دائماً.
وهكذا، على أبواب هذه القمة، تبدو دمشق والرياض أبعد مما كانتا عليه قبل شهر، من غير أن تجازفا بمواقف تعرّض القمة للانهيار والإلغاء، وللانعقاد بمن حضر أيضاً، حتى الآن على الأقل.