جان عزيز لماذا انقلب سيد بكركي على موقفه المعلن والمزمن من قانون الانتخاب؟ هل اقتنع بوجهة نظر مسيحيي الموالاة، بما يؤمّن مصلحة طائفته أكثر؟ هل أراد من ذلك شطب بند ـ عقدة عن جدول التفاوض، بما يسهّل الوصول إلى الانتخاب الرئاسي الذي يراه أولوية مسيحية من وجهة نظره؟ هل أراد بذلك مجرد التسجيل في مرمى بعض أقطاب المعارضة، على خلفية التوتر الشديد بين الطرفين؟
ثمة قراءة أبعد من هذه الاحتمالات، الممكنة أصلاً. لكن ماذا لو كان السبب الفعلي أكثر عمقاً ولاوعياً...
يعتقد الباحثون السياسيون أن أفضل مقياس للتمييز في دول العالم الثالث، بين اليمين واليسار، هو أن تكون في السلطة، وبالتالي محافظاً على النظام، أو أن تكون خارجها، أي داعياً إلى تغيير. فبمعزل عن التوجهات الاقتصادية والفكرية والسياسية الدولية والدولتية، لا بد من الإقرار بأنه في مجتمعات كمجتمعنا السياسي اللبناني، أن تكون يمينياً هو أن تكون حاكماً محافظاً، وأن تكون يسارياً يعني أن تكون محكوماً ثائراً. أما كل ما تبقّى فمجرد ذرائع بخطاب سياسي معدّ للتقلّب والتكيّف والتبدّل.
الذين لم يدركوا هذه القاعدة، لم يفهموا بعد كيف أن المسيحيين النازحين من الدول العربية المجاورة إلى لبنان مطلع السبعينيات، غيّروا عناوينهم الأيديولوجية. فهؤلاء الماركسيون والماويون في سوريا والعراق وغيرهما، لم يلبثوا في بيروت مع اندلاع الحرب أن انضمّوا إلى الأحزاب المسيحية، وقاتلوا في صفوفها، وصار لهم فيها ولأجل قضاياها شهداء وبطولات. بينما تفسير الأمر واضح، فهؤلاء المسيحيون المهمّشون في أنظمة الجوار، اعتنقوا اليسار تعبيراً عن توق كامن إلى تغيير تلك الأنظمة. فيما هم أنفسهم «الحاكمون» في النظام اللبناني، صاروا من غُلاة اليمين، دفاعاً عن نظام اعتقدوا أنهم انتزعوا فيه ومعه حقوقهم.
وبالانتقال إلى الحقبة الراهنة، تبدو القاعدة المذكورة وحدها القادرة مثلاً على تفسير الفارق بين تصريحات الشيخ محمد علي الجوزو اليوم، ومقال الدكتور حسين القوتلي الشهير في جريدة «السفير» في 18 آب 1975. فموقف المدير العام للأوقاف الإسلامية غداة اندلاع الحرب، «اليساري» المتطرف لجهة الثورة على النظام، يكمله موقف مفتي جبل لبنان بعد نهاية الحرب، في «يمينيته» المغالية دفاعاً عن النظام، علماً بأن الاعتقاد واجب في كون الرجلين لم يغيّرا فكرهما، لكن النظام اللبناني هو الذي تغيّر، فتغيرت مواقف المعنيين به، منه.
غير أن بلوغ هذا الحد من البحث يفرض طرح السؤال: لكن كيف تغيّر النظام في لبنان وفي أي اتجاه؟ لو قُدّر لمراقب حيادي أن يشهد اندلاع الحرب في لبنان، بكامل ظروفها وخلفياتها سنة 1975، ثم أن يغيب عن هذا العالم 30 سنة كاملة، ليعود بعد انتهاء الحرب في بيروت سنة 2005، لاعتقد للوهلة الأولى أن المسيحيين حقّقوا انتصاراً كاسحاً في الحرب، فالإجماع اللبناني على نهائية الكيان صار دستوراً، وفك الارتباط مع القضايا العربية والإسلامية، صار واقعاً، وانسحاب الجيوش غير اللبنانية، حتى «الشقيقة» منها، صار من باب الثوابت، أو حتى المزايدة، والقضية الفلسطينية وكفاحها وسلاحها، لم تعد تحرك شاباً واحداً في رأس بيروت، والانتماء إلى العالم الحر والتزام قواعده في السياسة والاقتصاد والفكر والممارسة، صار من جوامع اللبنانيين. حتى عُتاة اليسار السابق حجزوا مقاعدهم على لوائح «الرأسمال الوحشي»، كما كانوا يسمونه... باختصار، كان كل ما رفعه المسيحيون قبل 3 عقود قد تحقّق. انتصر ما حاربوا لأجله، فيما هم في واقع مناقض.
هذا الفارق، بل الفجوة، بين انتصار شعارات نضال المسيحيين، وانكسار واقعهم، هو السبب الأساسي لعودة إحباط مسيحي جديد، يلبس لبوس القلق والتبدّل والتقلّب، بحثاً عن ضمان سلطة ما، وبالتالي شرعية دور، أي دور. وهو فارق لم يتم التوقف عنده كما يجدر بعد، ولم تتم دراسة أسبابه وسبل معالجته وتخطيه. لكن الأكيد أن عوارض هذه الفجوة بدأت تظهر في سلوكيات النّخب المسيحية، وفي هواجس قوى مجتمعهم الروحي والسياسي والمدني وإرهاصاتها. إذ كما العود على البدء، يؤكد العارفون أن عملية «بحث عن الذات» جارية فعلاً في عشرات الحلقات والأطر المسيحية المستجدّة. ثمة قلق وجودي، فُطر المسيحيون عليه ربما، ولم يغب عن مجمع بكركي الأخير، وإن لم تشفه طروحات الصرح حتى اللحظة، إلا بمقاربة رقمية للمقاعد النيابية، تتبدّل مع كل حساب وجمع وطرح، كأن «القلق تحتها». لكن الأكيد أن المسيحيين عاد بعضهم إلى بعض، تماماً كما كانوا، منذ قرّر أحد أجدادهم معرفة الخير من الشر.