أنطون الخوري حربيتفاقم النزاع بين بطريرك الموارنة في لبنان وقادة الشارع المسيحي السياسيين، إلى حدٍّ بات معه طريق الرجعة باتجاه تفاهم ما شبه مقطوع بالكامل، وأصبح الخصام السياسي مفروزاً بين جزء كبير من أساقفة الطائفة المارونية والجزء الأكبر من القادة السياسيين، حيث بات بعض الأساقفة يمارسون التحريض اليومي عليهم عبر كهنة الرعايا ومسؤولي الأبرشيات التي يقع معظمها في محافظة جبل لبنان. فبعد امتناع أساقفة الشمال وبيروت والبقاع والجنوب عن القيام بمثل تلك الحملات التحريضية، اختلف الأمر في جبل لبنان، ولا سيما في أبرشيتي جبيل وأنطلياس اللتين يرأسهما المطرانان بشارة الراعي ويوسف بشارة.
وبعدما كان الاستياء البطريركي مركّزاً على رئيس تيار المردة، سليمان فرنجية، فوجئ مناصرو التيار الوطني الحر شمول حملة التحريض العماد ميشال عون الذي لم يعلن تأييده في السابق لتصريحات فرنجية المنتقدة للبطريرك صفير، رغم تأييد معظم القاعدة العونية الضمني وبعضه المعلن للأخير.
لكن المفاجأة كانت تركيز الحملة الأسقفية تحريضها على عون بدل فرنجية، ولذلك انحسرت حملتهم التحريضية في جبل لبنان، حيث حصدت لوائح عون الانتخابية فوزاً كاملاً وساحقاً في دورة انتخابات 2005. ويرى أحد الأساقفة أن التفسير الوحيد لهذه المفاجأة هو رهان البعض على إسقاط شعبية عون قبل أي استحقاق انتخابي جديد، لأن سقوط التمثيل الأكثري للتيار عند المسيحيين يعني سقوط الطرف المسيحي الأقوى في المعارضة، وبالتالي سقوط موقع المعارضة القوي بالكامل. وتأتي هذه الحملة بعد شعور أصحابها بفشل القضاء على قوة عون الشعبية عبر ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية بصفة توافقية.
أما بالنسبة إلى أداء المحرضين، فإن الأمر يختلف بين واحد وآخر، ففيما يكتفي المطران يوسف بشارة بتوجيه الانتقادات القاسية لعون في مجالسه من دون أي تمييز لمواقفه، مشيراً إلى أن عون «لم يجلب للبلد إلّا الكوارث، وأن الحركة السيادية الحقيقية والفعلية هي لقاء قرنة شهوان»، يذهب المطران الراعي إلى أكثر من ذلك، إذ يمتنع أحد الكهنة المقربين منه حتى عن ذكر اسم العماد عون عندما يكون ممثلاً بإحدى شخصيات التيار أو التكتل في المناسبات الدينية التي تكون برئاسة الراعي، مكتفياً بذكر اسم الشخصية الحاضرة لتمثل «قائد الجيش السابق»، كما حصل في العاقورة الأحد الفائت. أما كهنة بعض الرعايا المقرّبين من المطران الراعي فإنهم لا يتركون قداساً أو مناسبة يكون لهم فيها عظة أو تصريح إلّا يكيلون التهجمات التخوينية والتحريضية للعماد عون وتياره وحلفائه، إلى حد اصطدامهم ببعض أبناء رعيتهم. أما الأسوأ من ذلك، بحسب أحد نواب التكتل، فهو ذهاب هؤلاء الكهنة حد الانضمام إلى الحلقات واللقاءات التي تجمع أنصار مسيحيي السلطة ورعاية تهجماتهم على عون وكتلته وتياره.
ويعتقد أحد الأساقفة المتقاعدين أن «الشرخ الحاصل في المجتمع المسيحي لم يماثله شرخ آخر في تاريخ الطائفة، لكن الأسوأ هذه المرة هو تولّي مسؤولي الطائفة الروحيين تعميق هذا الشرخ بدل العمل على ردمه وفق قواعد صحيحة ومتطوّرة لحفظ حق الكنيسة المارونية بصيانة فاعلية الوجود المسيحي في لبنان، وحق ممثلي المسيحيين بالاستقلال السياسي عن المرجعية الدينية».
ويتساءل الأسقف المتقاعد: «لماذا لا يطلب البطريرك صفير من أساقفة كنيسته التجرد والحياد السياسي مع أبناء رعيتهم؟ وهل أصبح الاختلاف مع القادة السياسيين حلبة مزايدة للتبخير للبطريرك، وهل يقبل هو بذلك؟».
أما النائب المسيحي المعارض، فيكشف أن الفاتيكان كان قد تلقّى مراسلات، وأجرى اتصالات مع العديد من الشخصيات السياسية والدينية لبحث مسألة تقاعد البطريرك صفير من منصبه بعدما أصبح على عتبة عامه التسعين، لكن التطورات الأخيرة جمّدت هذه المساعي لكي لا تتكرّس سابقة عزل المرجعية المارونية عبر مطالبة شعبية، «غير أن الوضع يجب أن لا يستمر على هذا المنوال فلا يبقى البطريرك راعياً لطائفة منقسمة عليه»، معلناً أن المشاركين في المساعي لانتخاب بطريرك جديد بدأوا يبحثون عن أسلوب آخر لتحركهم.
يبدو ممّا تقدّم أن البطريرك الماروني لا يفكر بأية خطوة لرأب صدع طائفته المؤدي إلى توسيع الهوّة بينه وبين الكثيرين من أبنائهما، كما يغيب عنه البعد الاستراتيجي لهذا الانحدار نحو الصراعات المسيحية ـ المسيحية.