عرضنا في تحقيق أمس، «اللغة العربية في عيون أطفالها»، نماذج لعلاقة أطفال لبنانيين باللغة العربية الفصحى، كمحاولة تمهيدية لمعالجة أوسع، تبحث في أسباب تراجع استخدام هذه اللغة الذي أعاده كثيرون اليوم إلى التلفزيون. ما هو الدور الذي يلعبه الإعلام في هذا المجال؟مهى زراقط
كان اختيار الأطفال (في تحقيق أمس) لعرض المشكلة التي تواجهها اللغة العربية مقصوداً، للتنبيه إلى الخطر الذي يتهدّدها في حال استمرّ التعامل مع اللغة كما هي الحال اليوم. غير أن يوميات الشارع اللبناني تكشف المزيد عن نسب تراجع العربية: بدءاً من صبحيات النسوة، مروراً بلافتات المحالّ في الشوراع، وصولاً إلى المؤتمرات العلمية التي يندر فيها وجود العربية... بل إن الأخيرة، إذا وجدت في تلك المؤتمرات، سرعان ما تتحوّل إلى عامية لكي يسهّل المحاضر على نفسه مهمة إيصال فكرته. فهل اللغة العربية صعبة فعلاً إلى هذا الحدّ؟
ابتسامة المعلّم
«اللغة العربية جميلة... شرط أن يبتسم المعلّم».
جيل كامل من اللبنانيين كبر على هذه الجملة، التي كانت ترد في أغنية المقدّمة لمسلسل «الأستاذ مندور». في ذلك الوقت من الثمانينات، كان «تلفزيون لبنان» المحطة التلفزيونية الوحيدة في لبنان، وكان مذيعوه ومقدّمو برامجه يتحدثون غالباً بلغة عربية «سليمة»... (كما يقول الأستاذ مندور أيضاً). بعض المسلسلات اللبنانية كانت ناطقة بالفصحى «السهلة»، وكان الممثلون يتدرّبون على الإلقاء كما يتدرّب أي مذيع أخبار اليوم. حتى الرسوم المتحركة كان يتولى «دبلجتها» أشهر ممثلي ذلك الزمن بلغة عربية
سهلة.
أما اليوم، فكلما أراد أحدهم السخرية من سوء إتقان العربية، لا يجد أمامه إلا مذيعي التلفزيونات لتأكيد مقولته. ونادراً ما تمكن متابعة شاشة تلفزيونية عربية من دون كشف عشرات الأخطاء اللغوية الفادحة والفاضحة على حدّ سواء، وفي ظرف زمني قصير. ويمكن عدّ الوجوه التلفزيونية التي تتقن العربية في لبنان على أصابع اليد الواحدة، فهل يمكن «الجزم» بأن أحد أبرز أسباب تدهور العربية يعود إلى غزو التلفزيون حياة الناس بالشكل الذي نشهده اليوم؟
هذا «الجزم» يخلص إليه صحافي عتيق، جهد خلال عقود من العمل في الصحافة المكتوبة، على تيسيرها وتطويرها وابتكار جديد يتماشى مع العقل. يذكّر هذا الصحافي بالدور الرائد الذي لعبه انتشار الصحافة المكتوبة، مطلع القرن الماضي، في إعادة الحياة إلى لغة عربية كانت مهدّدة بالبقاء أسيرة المعاجم والقواميس.
دور الصحافة
في محاولة لرسم خط بياني لانتشار اللغة العربية، يتوقف أحد أبرز الشعراء اللبنانيين اليوم عند بدايات الصحافة العربية في مطلع القرن العشرين «التي جعلت اللغة العربية حية مجدداً، فصارت لغة إخبارية، حيّة، تتيح التعامل مع القارئ العادي لا مع النخبة وحدهافي ذلك الوقت، كان العاملون في الصحافة هم الأدباء وأساتذة اللغة، مثل المعلّم بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق، «كان عندهم همّ إيصال أكبر قدر من المعلومات لأوسع رقعة من القرّاء». ويقدّم مثلاً عن الأديب جرجي زيدان «أصدر مجلة الهلال التي كانت تنشر مواضيع في مختلف حقول المعرفة، كان عليه أن يكتب لغة يفهمها كلّ من يقرأها». هؤلاء الروّاد استطاعوا مواكبة الحداثة مطلع القرن الـ20 عن طريق لغة تعكس هذه الثورة بما ينسجم مع روحها. وقد استمرّ هذا التطوير بشكل طبيعي، ودائماً كان الأدباء أبطاله. يمكن القول إن «وفرة الأدباء في الصحافة جعلت اللغة في تطوّر مستمرّ».
انتشار الإذاعات لم يسئ إلى لغة الصحافة، بالعكس كان دورها إيجابياً في تعزيز لغة سليمة لفترة طويلة، «إلى أن ظهر التلفزيون وانتشر، فأضرّ بالصحافة المكتوبة والإذاعة على حدّ سواء... لقد أُجبرت الجرائد أن تصبح أكثر تصويرية وشفهية على حساب سلامة التعبير».
ويقول صحافي عمل في إحدى الفضائيات إن سلامة اللغة «هي آخر ما يشغل بال المشرفين على بعض الفضائيات»، لافتاً إلى أن معظم مذيعات تلك المحطة «مررن دائماً عبر مقسم الهاتف، فغرفة المدير ... فالأستوديو».
مع مرور الوقت، «وصلنا إلى مرحلة انتشر فيها الضعف في العربية بشكل معيب، ذلك أن هذه اللغة لا تتحمّل الضعف». ويذكر كيف أن النقاش والأسئلة التي تتناول اللغة كانت تشغل حيّزاً كبيراً من وقت العمل في السابق، «أما اليوم فيكتب الصحافي كما لو كان يقوم بنقل مباشر من دون أن يعي أن اللغة هي الأداة الأولى للصحافة، ويجب أن تكون سليمة». أما الأخطر في رأيه، فحين يكون الخطأ اللغوي عقلياً بمعنى التعامل مع اللغة بشكل ببغائي من دون روح «تماماً كالرسام الذي لا يعرف الألوان».
اللغة فرس الفكر
هكذا كان الأستاذ مندور، يغض النظر عن أخطاء بسيطة ويثور لخطأ يهزّ روح اللغة. هذا ما يقوله مؤلف المسلسل الكاتب مروان نجار. لم ينتظر نهاية سؤالنا الأول، يكفي أن يسمع «عن اللغة العربية» حتى يسأل هو: «اللغة أين؟ في نشرات الأخبار أم في الدراما؟»،
تفهم أن لديه ما يدلي به في الموضوعين. الأمثلة على الأخطاء حاضرة في ذهنه، يسخر من العبارة المكرّرة دوماً «على قَدَر المسؤولية» عوضاً من «على قدْر»، أو «ومن ثمَّ» يقول بانفعال: كيف أتى حرف الجرّ بين حرفي عطف؟
نجار علّم اللغة العربية، ويدرك أسرارها. يتسامح، مثل بطله الأستاذ مندور مع أخطاء بسيطة في اللغة، لكنه يرفض التسامح مع أخطاء قاتلة لها علاقة بروح اللغة. يعدّ نفسه من تلامذة أنيس فريحة الذين سعوا إلى تطوير علاقة الناشئة باللغة. برأيه أخطأ الداعون إلى تبسيط اللغة لا تيسيرها، «ليس مطلوباً أن نمدّ يدنا عليها بل على وسائل تعليم اللغة».
علاقته باللغة تشبه علاقة الأستاذ مندور بها، وهي تقوم على قاعدتين، الأولى مبدئية قوامها: «اللغة فرسُ الفكر، والفكر فارسها، فلا هي تكبو ولا هو يخبو». أما القاعدة الثانية فتطبيقية: «اللغة العربية جميلة جداً شرط أن يبتسم المعلّم». ذلك أن اللغة ليست مجرد وسيلة تعبير فقط، بل وسيلة تفكير. وهو يلاحظ اليوم الكثير من الصيغ الركيكة في التعبير عن الأفكار، مثال: احمرّ خجلاً، التي أراها جميلة جداً، لكن الكثيرين يفضلون صيغة «احمرّ من الخجل»، علماً بأن المنصوبات تضفي المزيد من الجمالية. أحياناً تترجم بعض العبارات من الإنكليزية، ويقولها صاحبها بصيغة الترجمة الحرفية وما فيها من ركاكة.
غير أن نجار الذي يوافق على وجود المشكلة، لا يحمّل المسؤولية إلى طرف واحد فقط، «وخصوصاً أن الكثير من العاملين في التلفزيون يجهدون للمحافظة على القواعد». في الدوبلاج مثلاً «أنا أعرف أنهم يعملون قدر المستطاع، ويفتحون الكثير من القواميس، لكن مشكلة هذه المسلسلات المدبلجة تتعلق بالإحساس، الإنسان العربي لا يتفاعل مع جملة معينة بالطريقة نفسها كالممثل المكسيكي».
... ولغة الإنترنت؟
ثورة ثالثة أثّرت على العربية هي الإنترنت، الذي «أسس» لنشوء لغة تعتمد الحروف اللاتينية لإيصال الفكرة، مع بعض الأرقام التي تعبّر عن الأحرف الصامتة فيها غير الموجودة في لغات أوروبية (ح، خ، ع، ء).
هذه الظاهرة، رغم أنها تكشف عمق الهوة التكنولوجية بين العرب والغرب، إلا أن لها وجهها الإيجابي، كما أكد الدكتور هيثم قطب خلال محاضرة ألقاها الشهر الفائت تحت عنوان «اللغة الأم والتواصل الإلكتروني: تواصل أم تقهقر». فقد خلصت ورقة العمل التي قدمها في مؤتمر نظمته اليونسكو تحت عنوان «لغتنا الأم: مقاربات في الوسائل والوظائف»، إلى أنه «صحيح أن الشباب أدخلوا عادات تواصلية غريبة عن لغتهم الأم، بسبب اعتمادهم أكثر فأكثر على تقنيات التواصل الإلكتروني، غير أننا نلاحظ في المقابل أن اللغة العربية حاضرة على مواقع الإنترنت وفي الهواتف الجوالة. لذلك لا خوف عليها، فمتكلّموها يظهرون الحرص على إيجاد التوازن اللازم بين واحد من مكوّنات هويتهم وسبل تواصلهم مع العالم الحديث، مفاهيم وأسماء ومسميات».
خلاصة إيجابية، لكن ليس إذا تذكرنا أن الكثير من لغات العالم في خطر، وأن كثيراً من اللغات ماتت وانقرضت... وأن ورشاً عالمية تقام من أجل المحافظة على اللغات، فكيف باللغة العربية التي يعاني محبوها وممارسوها «قهراً عظيماً»، بسبب تراجعها والظلم الذي يلحقه هذا الأمر بمن يعبّر بها من أدباء وعلماء...


متعة الإبحار
لا يمكن محاولة الإبحار مع محبي اللغة العربية، إلا أن تقدّم موادّ ممتعة من تاريخ العرب الذي قام على الشعر والفصاحة... حتى في ما يختص بالعلوم. في ذلك الزمن، نظم ابن مالك كلّ قواعد اللغة العربية في ألف بيت من الشعر، سّميت بالأرجوزة، منها على سبيل المثال:
«يتبع في الإعراب الأسماءَ الأوَل، نعت وتوكيد وعطفٌ وبدل»
أما ابن سينا فقد «نظم» (النظم غير الشعر) أرجوزة طب، منها:
«ثلاث هنّ من داعي الحِمام، ومجلبة الصحيح إلى السقام،
دوام مدامة ودوام وطء وإدخال الطعام على الطعام»
هذا الإتقان للغة، دفع الأميرة دعد إلى كشف قاتل عريسها المنتظَر. فهي كانت اشترطت الزواج ممن ينظم فيها أجمل قصيدة. وحين سمعت الشاعر يقول: «إن تتهمي فتهامة وطني، أو تُنجدي إن الهوى نجد»
فقالت من وراء الحجاب: اقتلوه إنه قاتل زوجي، لأن لهجته لم تكن لهجة أهل تهامة.
ويعرف اللبنانيون أمثلة، هي عبارة عن أبيات شعر مثل «والأذن تعشق قبل العين أحياناً». قصة هذا المثل أن شاعراً أعمى أحب امرأة، فقال فيها: «يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة، والأذن تعشق قبل العين أحياناً».
كذلك الأمر في المثل الشهير «اختلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضية»، وهو مثل مقتبس من بيت شعر قاله الفرزدق يوم أحبّ امرأة أموية.
أما القصة الأجمل، فهي قصة أغنية «ع العين يا أبو الزلف». إذ تقول الرواية إنها مرتبطة بنكبة البرامكة. فقد كان خالد البرمكي جميلاً جداً وله سالفان. عندما قتلوه دخلت الجارية السريانية إلى غرفته ووجدته مرمياً على الأرض، راحت تبكي وندبته: «ع العين يا أبو السلف عيني يا مولايا». ولأن لهجتها سريانية، فقد لفظت حرف السين «زين» وصرنا نعرف الأغنية كما هي اليوم.