يفترض أنه عيد لجميع الأمهات في العالم، لكن كثيرات حرمن منه بسبب الغربة، الفقر وجحود الأبناءأحمد محسنفي حين يشكّل عيد الأم مناسبة تجمع غالبية أمّهات لبنان مع أبنائهنّ، تنزوي العاملات الأجنبيات في البيوت مراقبات الاحتفال من بعيد. كثيرات منهنّ أمهات، هنّ في لبنان ليقدّمن واحدة من أقسى تضحيات الأمومة: الابتعاد عن الطفل من أجل تأمين حياة أفضل له. ماذا يقلن في عيدهنّ؟
تضع كوماري، من الجالية السيريلانكية العاملة في لبنان، يديها على عينيها خجلاً من الأسئلة التي تنهال عليها بصفتها أمّاً هذه المرة، لا بصفتها خادمة في المنزل. في بلدها، لم تحتفل يوماً بعيد الأم، تعرّفت إلى هذا العيد عندما جاءت إلى لبنان.
ترفض كوماري الحديث بداية، لكن عندما تُستدرج إلى الحديث عن طفلها، يتراجع خجلها تدريجاً. أنجبت طفلها الأول العام الماضي. بعد ولادته ببضعة أشهر جاءت إلى بيروت للعمل لأن زوجها كان سيئاً ويضربها يومياً.
«ابني مع ماما وبابا» تشرح لنا، مؤكدة أنه في أمان. رغم ذلك لا تخفي حزنها لأنها لا تراقب نموّه. يكفيها ما حفظته عنه قبل سفرها، «فتتذكر» أن حجمه كان صغيراً جداً عندما أتت إلى بيروت. تمسك دميةً قريبة منها، وكأنها تقول إنه في حجمها تقريباً.
علاقة كوماري بابنها تقتصر على الهاتف، الذي لا تسمع عبره إلا صوت ابنها صارخاً أو باكياً. وتكتفي بالاطمئنان عن حالته عبر والدتها.
عيد الأم، الجديد عليها، يستدعي الدموع إلى عينيها وهي البعيدة عن أمها وطفلها الذي تتمنى لو تقول له في عيده الاول «أنا بحبّو».
سوماندرا (34 عاماً)، سيريلنكية أيضاً، تعرف عيد الأم. وهديتها هذا العام السماح لها باستخدام الإنترنت ومحادثة أولادها عبره، كما تقول بسعادة واضحة. هي ربة عائلة مؤلفة من أربعة أطفال يعيشون مع والدهم في منطقة تدعى «رانتابورا». تتحدث عن أطفالها بشغفٍ شديد، رغم صعوبة أسمائهم الطويلة. تخبرنا عن أحلام كلّ منهم، فابنها الأكبر يريد أن يصبح طبيباً، تقول ذلك فيما تخرج صورةً من جيبها لا تفارقها، للابن الأصغر. تنظر إليها بفرح مفرط، وتردف أنه سيلتحق بالجيش عندما يكبر، «لأن شخصيته المنفعلة تثبت ذلك رغم صغر سنّه» وتحرك يديها بسرعة لتشرح كيف يتصرفتتكلّم سوماندرا العربية بطلاقة. تشعر في بيروت كأنها بين أهلها، لكن ينقصها شيء واحد هو أطفالها. آخر مرة رأتهم فيها كانت في حرب تموز، حيث اضطرت للمغادرة خوفاً من الحرب. تقول إن سيريلانكا تعيش حالة حرب أيضاً، «لكنها فضلت أن تعيش الحروب بجانب أطفالها، وأن تكون إلى جانبهم، وخصوصاً أن بقاءها في لبنان لم يعد مجدياً آنذاك».
في بنغلادش يحتفلون بعيد الأم. هذا ما تؤكده ثريا (28 عاماً) العاملة البنغلادشية في أحد منازل بيروت. تبدي خجلاً كبيراً عندما نسألها عن أولادها قبل أن تجيب بلهجتها العربية المكّسرة «صبي واحد بنت واحد». وتقول إنها تتمنى لو تستطيع قضاء كلّ الوقت مع أولادها.... وإذا كان هذا اليوم عيداً للأم، فلا شيء آخر في العالم قد يرضيها أكثر من احتضانهم. علماً بأن طفلَيْ ثريا هما من دفعها للمجيء إلى بيروت لتستطيع إعالتهما، مع وجود مشاكل عائلية في وطنها. كانت تتمنى لو تستطيع إحضار أولادها للعيش معها، لكنّ هذا لم يكن ممكناً «والأفضل لهما أن يبقيا في المدرسة».
صورهما في غرفتها الصغيرة تجلب لها العزاء، كما إنها تهاتفهما مرة كل أسبوعين لتطمئن إليهما. وتتوقع ثريا أن تراهما بعد عام «أو أكثر قليلاً» أي عندما تحصّل ما يكفي من المال لتؤمن لهما ما يكفي لإكمال المراحل التعليمية الأساسية. لو أرادت ثريا قول شيء ما لأولادها في 21 آذار فإنها ستقول «أي شيء، المهم أن أسمع صوتهما» في عيد الأم... وأي يوم آخر.
على عكس الحالات السابقة، روزا (21 عاماً) ليست أماً، لكنها في الأساس لم تكن تعرف أن للأمهات عيداً، ولم تسمع عن تاريخه في حياتها. «في أثيوبيا لا نعرفه» توضح، معربة عن إعجابها بهذه الفكرة التي زادت شوقها إلى أمّها «لو كانت معي في بيروت لاحتفلت بها وعبرّت لها كم أحبّها فأنا أشتاق لها كثيراً».
روزا سعيدة في لبنان، تقول مستدركة ومثنية على حسن المعاملة التي تحظى بها بحيث تشعر كأنها فرد من العائلة التي تعمل لديها. والدليل أنهم أخبروها عن عيد الأم وأتاحوا لها إرسال هدية إلى أمها بالمناسبة. كتبت رسالة صغيرة في هديتها لتعرّفها بمعنى هذا العيد. وتقول إنها عندما تصبح أماً ستصرّ على البقاء إلى جانب أطفالها في أثيوبيا. روزا التي بقيت مع عائلتها الثانية في لبنان خلال حرب تموز وتهجّرت معهم، لكن إذا صار عندها أطفال فلن تبتعد عنهم. تضم يديها إلى صدرها لتعبّر عن رغبتها بأن يكون عندها عائلة وأطفال، وأن تصبح أماً، يحتفل العالم كله بعيدها.


في دار للعجزة... تنتظر الأمهات من يلقي السلام
عُبادة كسرزيارة في عيد الأم إلى هذه الدار. هناك وجدنا 13 سيدة مقيمة فيها منذ سنوات طويلة. منسيات ينتظرن زيارة من أحدهم، ربما تكون لاستلام جثامينهنّ كما حصل مع كثيرات ممّن سبقهنّ. معظمهنّ موجود في الدار لأسباب اقتصادية، أو لأنه بات «مقطوعاً من شجرة».
اهتمام الجمعية واضح بنظافتهنّ وصحتهنّ بالرغم من تراكم آلامهن بسبب الأمراض المزمنة: القلب، المفاصل، السكري، الزهايمر، ضغط الدم، الغدد… يأتي الطبيب دورياً ليكشف عليهن، ولكن كلّ ذلك «مش مهم» ما دمت ستسمع صوت «وجع نفوسهن» يؤمّ المكان، وتلفحك نسمات دافئة حزينة عندما تصعد السلالم لرؤية من قسا الدهر عليهنّ، فيدعوك الجو العام لتفحّص أنينهنّ مع نظرات منهنّ تحمّلك ألف سلام وسلام لأبناء وإخوة وأقارب». «يا ترى بتعرفي أولادي، ابني فلان وفلان، أمانة إذا شفتيهن قوليلهن إمّكن مشتاقتلكن وحابّة تشوفكن». تختنق الكلمات داخل حنجرة الحاجة ن. ح. (75 سنة) التي رغبت في تمضية عيد الأم في مركز الجمعية، خيراً من الخارج «هنا يهتمون بنا أكثر».
لغة الكلام تتعطل فجأة ونتحول إلى الإنصات. تفيض دموعهن وتسيل على ضفاف ما صنعه الدهر على وجناتهن. يشهقن ويبتلعن لعنات الحالة الاقتصادية الخانقة التي فرقت بعضهنّ عن أبنائهنّ، وخصوصاً أن «أبنائي الستة فقراء، بيوتهم بالإيجار، وما معهن ياكلوا». تضيف أمّ ع. ف: «عندما يأخذونني لزيارتهم أتمنى لو أعود إلى المركز لكي لا آخذ شيئاً من دربهم ودرب أولادهم. حالتهم بالويل، أنا هنا مؤمّنة من كل شي».
الألم مشترك والحديث يطول، لولا حضور «بنت الهرمل» التسعينية (ص. د) التي تحرص على رسم الابتسامة على ثغور رفيقاتها في المركز. تحكي لهنّ عن الفرنسيين، ثورة توفيق هولو حيدر وغيره من الثوار، حكايا عن الماضي الجميل ونكات. صحة (ص. د) ممتازة، ليست بحاجة إلى دواء وتدرك ما يدور من حولها، للأشياء: «أنا هيك لأني تربّيت في (منطقة) الجباب الحمر، وعلى الحليب الطبيعي واللبن...». هي موجودة في الدار لأنها مقطوعة من شجرة بعدما توفي زوجها ولم تنجب أطفالاً.
الأمهات العاجزات ينتمين إلى مناطق لبنانية مختلفة. أطلقن صرخة في عيد الأم لأبنائهن. بعضهن متشوقات لزيارة قد تحصل وربما تموت الوالدة قبل حصولها.
«دخلك أخي مات؟ أنا سمعت أنهم أذّنوا له في الجامع بس مش متأكدة، أخي اسمه فلان». تسألنا ن. ج (80 عاماً) التي تلتهم النيران قلبها للاطمئنان إلى شقيقها الذي يبدو أنه توفي، بدليل أنه لم يزرها منذ وقت، كما أن أحداً من أبنائها وأقاربها لم يسأل عنها منذ فترة طويلة. وبحزن يكاد يفطر قلبها أرسلت من خلال «الأخبار» كلمات بمناسبة عيد الأم عن معاناتها: «يا ماما أنا إمّكن الغالية اللي سهرت على تربايتكن، وحرمت حالها الكثير كرمالكن، طلّوا عليّ، ديروا بالكن عليّ، الله يرزقكن ويرضى عليكن».