لا يجد اللبنانيّون مفرّاً من اليأس والخوف، وإن كانوا في غالبيّة الأحيان يظهرون حيويّة فائقة في تعاملهم مع الأزمات، فالحروب المتتالية التي مرّ بها لبنان، لم تنتهِ تداعياتها بعد، وقد ظهرت عوارضها جليّة في الدراسة التي أعدّها مركز الأبحاث وتطوير العلاج التطبيقي في جمعيّة «إدراك» عن «نسبة انتشار الاضطرابات النفسية على مدى الحياة في لبنان: بداية عوارضها، علاجها والتعرّض لأحداث الحرب».شملت دراسة إدراك عيّنة تتألف من 2857 لبنانياً راشداً، مستخدمةً فيها استمارة منظّمة الصحة العالمية. وقد أظهرت النتائج أن 25,8% من البالغين عانوا اضطراباً نفسياً واحداً على الأقلّ خلال حياتهم، فيما وصلت نسبة «القلقين» إلى 16,7% و12,6% لأصحاب الاضطرابات المزاجية. أمّا نسبة اضطرابات التحكّم في الاندفاعات، فلم تتعدّ نسبتها 4,4% و2,2% للاضطرابات المتعلّقة بالإدمان.
ولعلّ السبب الأوّل الذي أدّى الدور الأساس في «طفرة» تلك الاضطرابات هو الحرب، إذ أبرزت الدراسة أنّها أسهمت بشكل أو بآخر فيها، لافتةً إلى أنّ التعرّض للحرب ليس فقط مرتبطاً باضطراب ما بعد الصدمة، بل له أيضاً علاقة باضطرابات نفسية تظهر آثارها على المدى البعيد، كالاكتئاب. وأشارت الدراسة إلى أن التعرّض لأحداث الحرب زاد ستة أضعاف تقريباً من احتمال إصابة اللبناني بأحد اضطرابات القلق، وأكثر من ثلاثة أضعاف احتمال الإصابة بأحد اضطرابات المزاج، فيما تخطّت 12 مرّة احتمالات الإصابة باضطرابات التحكّم في الاندفاعات.
أمّا في ما يتعلق بالعلاج، وعلى الرغم من أنّ نصف المشمولين بالدراسة تلقّوا علاجات للاضطرابات المزاجية، فإنّ معدّل المدّة الزمنية بين تشخيص هذه الاضطرابات وبدء معالجتها هو ست سنوات. غير أنّ سبب التأخّر الكبير في الكشف وتلقّي العلاجات، حيث يصل في بعض الأحيان إلى 28 سنة، لا يعود إلى عدم توافر الاختصاصيين، وخصوصاً أنّ لبنان يعاني فائضاً في أعداد الأطبّاء يفوق 325 طبيباً لكلّ 100 ألف مواطن، بل يكمن في نقص الوعي أو في الصعوبات المادية. ولا يقف التأخير عند مشكلة الكشف والمال، فثمّة مشكلة أخرى تتعلّق بالخوف من الإعلان عن الاضطرابات النفسية وغياب ثقافة الإبلاغ عنها لدى اللبنانيين، الأمر الذي يعكس تبايناً بين نتيجة الدراسة والواقع، الذي قد يكون أكبر ممّا تظهره هذه النتائج. وأمام هذا الواقع، سعت «إدراك» في مراحل عدّة إلى سدّ هذا النقص، فعملت على مدى السنوات العشرين المنصرمة على دراسة العلاقة بين التعرّض لأحداث الحرب ودرجات الاضطرابات النفسية، في محاولة منها لتجنّب حالات الاضطراب المستعصية. ورأت، من جهة ثانية، في بيان أصدرته بالتزامن مع الدراسة، أنّ ثمة حاجة إلى العمل على زيادة التوعية في ما يتعلق بتأثير الحرب على الصحة النفسية في لبنان والمنطقة العربية، بقدر الحاجة الملحّة إلى تشخيص الأمراض النفسية في وقت مبكر والشروع في معالجتها.
لكن يبدو، من الجهة المقابلة، مع كلّ تلك النتائج «المخيفة» بحسب الدراسة، أنّ اللبنانيين يعانون أقل من الأميركيين والأوروبيين من ناحية الاضطرابات المزاجية، وأقل من الأميركيين في ما يخصّ اضطرابات القلق.
(الأخبار)