strong>مهى زراقط
•الكلام في الحاضر عزّ وفخر... وفي الماضي خيبة وانكسار
وُلد في حيفا، كبر في أحياء برج حمود الفقيرة، وينتمي إلى قرية بنت جبيل. ثلاثة أماكن كوَّنت وعي غازي أيوب الذي سلخت منه «نكسة» عام 1967 روحه، ولم يستعدها إلا مع انتصارَي عامَي 2000 و2006. حياة حافلة خاضها أستاذ اللغة العربية جعلته يؤمن بأن خلاص الأمة يكون... بمعلّم مختلف

من حيفا يختار أستاذ اللغة العربية غازي أيوب أن يبدأ حديثه. هذه المدينة التي وُلد فيها بعد أربع سنوات من هجرة أهله إليها في عام 1941. أخبره والده أنهم كانوا يسكنون في منطقة جبل الهدار في حيفا «وهي منطقة ذات غالبية يهودية، وكانت فيها جيوب للمناضلين الفلسطينيين والثوّار العرب الذين رفدوا الثورة الفلسطينية آنذاك بعدد كبير من المجاهدين». يقول ليشرح سبب بقاء حيفا في خياله: «مدينة رائعة أتمنى أن يطيل الله عمري وأعود، ولو مرةً لأراها، محرّرة».
في عام 1948، عام النكبة، عادت العائلة إلى بنت جبيل «ومن هناك انتقلنا إلى برج حمود، حيث بقينا إلى عام 1976، نزحنا إلى منطقة الضاحية الجنوبية بسبب الحرب الأهلية واجتياح القوات اللبنانية منطقة برج حمود ـــــ النبعة».
كما كلّ أولاد جيله، تعلّم في الأحياء الشعبية «من دون اهتمام الأهل بنا، وقليلون هم المعلمون الذين كانوا يعيروننا انتباهاً ويؤهلوننا لأن نكون جيلاً فاعلاً في المستقبل. تعلمت في المرحلة الابتدائية في مدارس العرفان وحداد الثانوية في برج حمود وسن الفيل». ويصف برج حمود بأنها كانت آنذاك «منطقة أمم متحدة، الناس كانوا متعاونين ومتفاهمينحبّه للمطالعة فطري، لكن عمله الصيفي لتأمين رسوم الدراسة، في مطبعة عند طريق النهر، جعله يحب القراءة أكثر. حصل على شهادة البكالوريا القسم الأول في عام 1964، ولم يعد باستطاعة أهله أن يدفعوا له تكاليف الدراسة، فانقطع عنها من دون أن ينقطع عن القراءة، وراح يبحث عن وظيفة. ينتقل من واحدة إلى أخرى حسب الراتب.
«عملت في البداية موظفاً مياوماً في وزارة البرق والبريد والهاتف لمدة ثلاثة أشهر، كنت موزّع مخابرات في سنترال بكفيا وأنطلياس. بعدها تقدّمت لوظيفة مساعد قضائي، وعملت لمدة عام في محكمة بلدية برج حمود التابعة للمحكمة الجزائية في جديدة المتن».
العودة إلى الدراسة جاءت صدفة «كنت قد تزوجت، ورغبت أختي وأخت زوجتي متابعة دراسة الموحّدة السورية. ولأن المرحومين والدي وعمي كانا متشددين لم يسمحا لهما بأن تذهبا إلى دمشق لتتابعا الدراسة وحدهما، فاضطررت أن أسجّل معهما... والغريب أني نجحت وهما رسبتا».
في ذلك الوقت كان أيوب رجلاً رياضياً، يمارس ألعاب القوى ويلعب الكرة الطائرة في الدرجة الأولى مع فريق النادي الرياضي «قرأت إعلاناً بأن وزارة الدفاع تطلب مدربين رياضيين مدنيين في الجيش، تقدمت لأن الراتب كان أعلى وجئت أولاً في المباريات وشغلت هذه الوظيفة لمدة سبع سنوات».
أمران يذكرهما خلال عمله مدرّباً، إذ «في عام 1967 كنت في حقل التدريب في عرمان، فإذا بعسكريّ أتى ليقول إن الحرب نشبت بيت العرب وإسرائيل وعلى الجميع الالتحاق بالخدمة. التحقنا وكلنا حماسة مقتنعين بأن ساعة هزيمة إسرائيل حانت، وأننا سنكون جيل الانتصار. لكن ما حصل سبّب لنا فعلاً نكسة. لم نعد نتصوّر أنه ستكون لنا حياة في المستقبل نتيجة خيبة الأمل هذه التي منينا بها».
الأمر الثاني كان مع تسريحه من التدريب العسكري في عام 1972 «لأسباب سياسية»، يقول أولاً... أما السبب المباشر فكان «المنبر الحرّ في جامعة بيروت العربية، حيث كان يتابع دراسته، الذي شهد لي وقفة دعوت فيها إلى أن نتسلّح بوعينا العربي لمقاتلة أعدائنا، وأن عملية الدفاع لن تكون جيشاً لجيش لأننا لن نستطيع أن نواجه اسرائيل». ولأنه موظف لم يكن يحق له الإدلاء بتصريح كهذا إلا بموجب إذن، «سُرّحت من الوظيفة وكان هذا سبباً لأنطلق أكثر في الحياةسافر إلى ليبيا للعمل، لكن إقامته لم تطل هناك. عاد إلى بيروت وعمل في التدريس. هنا يطيب لأيوب أن يشرح رؤيته إلى هذه المهنة التي شكلت من جهة مصدراً للرزق، ومن جهة ثانية مساحة لتطبيق رؤيته التربوية «أنا أؤمن بأن خلاص أمتي يكون بمعلّم مختلف، يحمل همّ التحديث، والإنسان هو أساس التحديث. العالم ليس عالماً إلا حيث يكون الإنسان قوياً وقادراً. أقول إني استطعت أن أحقق شيئاً من هذه الرؤية من خلال التعليم».
«خيبة» عام 67 استمرّت حتى انطلاق الثورة الفلسطينية التي «مثَّلت بارقة أمل، لكن ما لبثنا أن منينا بخيبة جديدة لأن الحكام العرب قاموا بما عليهم للإيقاع بالمقاومة». في عام 1982، كان مع الذين بقوا في بيروت للدفاع عنها. «كنت أسكن في فردان وأعرف الأماكن التي لجأ إليها طلاب الجامعة الأميركية وحملوا السلاح للدفاع عن هذا الحي... وفي منطقة أخرى طلاب جامعة أخرى... كنت أُسَرُّ عندما أسمع أن بيروت لم تسقط لأننا سنبقى فيها أحياء».
يقول: «بيروت 1982 كانت المرحلة السعيدة في حياتي... تلتها حلقات المقاومة المتتابعة التي كوّنت سلسلة المقاومة، وخطّت في حرب تموز صفحة جديدة حقق فيها هذا الجيل الانتصار الكبير».
صحيح أن أيوب يرى جيل اليوم قلقاً «لأنه يتلوّن بلون البيت، الشارع، المدرسة». لكن... «لا شك أني أنحني أمامه إجلالاً لأنه جيل المقاومة، هذا الجيل الذي يتابع دورات التدريب كما يدرس». هو لم يسأل تلامذته ليعرف، «نبرة المقاوم التي يتحدّث يها المقاوم لا تخفى عليّ» معترفاً بأن عدداً من تلامذته كانوا من أبطال حرب تموز.
لا يلتزم أيوب خطاً سياسياً حزبياً. فعل ذلك شاباً عندما انخرط في حزب البعث العربي الاشتراكي ليكتشف بعد عامين المساوئ العديدة للعمل الحزبي العربي وأبرزها الشخصانية. «قادة كبار ابتعدوا بالشخصانية عن العمل السياسي الجاد الذي كان يمكنه أن يحوّل سير التاريخ العربي من عام 1948 إلى يومنا هذا. فرص كثيرة ضاعت على الإنسان العربي لكي يكون إنساناً منتصراً».
الأمر مختلف مع «حزب الله». يبدي إعجابه بهذه التجربة، وهو الخبير في عمل الخلايا الحزبية «نعم معجب بتكوين هذا الحزب وقدرته على العمل السياسي والعسكري، وخصوصاً عندما أقارن بين فترات سابقة لفصائل سابقة. كيف كانت المخابرات تخترق صفوفهاأيوب المناضل على طريقته، نقل العدوى إلى ابنه الذي تابع مسيرته وأسهم في تحقيق الانتصار. لذلك لم يحزن عندما دمر جزء كبير من بيته في الحرب الأخيرة، «كنت أردّد مع الإنسان البسيط في الشارع، ومن كلّ قلبي: فدا إجرك يا سيّد. صدقيني أنا من الجيل الذي عادت إليه الروح. أنا ابن أحياء برج حمود الفقيرة، بيتي لا يساوي أبداً قيمة الانتصار الذي لا يعادله أيّ شيء مادي». هذا الانتصار الذي يعتزّ به كلّ العرب «كنت في الحجّ هذا العام ولاحظت حجم الحبّ الكبير الذي يكنّه العرب والمسلمون للمقاومة وسيّدها».
يختم: «الكلام في الحاضر هو كلام عزّ وفخر، الكلام في الماضي هو كلام خيبة ونكسة».



مكتبة نادرة

كان لا بدّ في سنوات الخيبة والحزن من البحث عن خلاص وجده أيوب في الثقافة والفن. صحيح أنه خلاص فرديّ، كما يسميه، لكنه كان ضرورياً في مرحلة من المراحل ساعدته على تأسيس مكتبة تحوي بعض الكتب النادرة: كتب ممنوعة وطبعات قديمة فيها نصوص غير موجودة في طبعات أخرى.
نجت هذه المكتبة بعد الحرب. وهو يعيد ترتيبها بهدوء بعدما أنجزت «جهاد البناء» ترميم المبنى الذي يقيم فيه. «كنت أشتري الكتب عن أرصفة ساحة الشهداء. اشتريت كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) طبعة العام 1920 بليرتين فقط». هنا لا يمكنه إلا أن يمرّر رأيه في حركة إنتاج الكتاب العربي: «نعاني في أمتنا العربية لأن المبدعين عندنا قلائل وإن كان الذين يكتبون كثيرون».